بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ﴿1 ﴾ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ﴿2 ﴾ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ﴿3 ﴾ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ﴿4 ﴾ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴿5 ﴾ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴿6 ﴾ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ﴿7 ﴾ فِي أيْ: صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ ﴿8 ﴾ كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ﴿9 ﴾ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ﴿10 ﴾ كِرَاماً كَاتِبِينَ ﴿11 ﴾ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴿12 ﴾ ﴾
روى النسائي[26] عن جابر[27] قال: قام معاذ[28] فصلى العشاء فطّول فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( أفتّانُ أنت يا معاذ ؟ أين كنت عن سبح اسم ربك الأعلى، والضحى، وإذا السماء انفطرت )....... [ متفق عليه]. وأصل الحديث مخرج في الصحيحين ولكن ذكر إذا السماء انفطرت في إفراد النسائي.
يقول تعالى: ﴿ إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ﴾ أيْ: انشقت ﴿ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ﴾ أيْ: تساقطت ﴿ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ﴾ أيْ: تفجرت وذهب ماؤها ﴿ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ﴾ أيْ: تحركت وخرج من فيها ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴾ أيْ: إذا وقعت كل هذه الأمور المتقدمة حصل العلم عند النفس ما عملته من خير أو شرٍ.
وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾ أيْ: ما غرّك بربك الكريم حتى أقدمت على معصيته كما جاء في الحديث الصحيح: ( يقول الله تعالى يوم القيامة: يا ابن آدم ما غَرَّكَ بي؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟ )....... [ صحيح ]
وروى ابن أبي حاتم بسنده إلى يحيى البكاء[29] سمعت ابن عمر يقول وقرأ هذه الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾ قال ابن عمر: غرّه والله جهلُه. وروى عن ابن عباس وغيره: ما غر ابن آدم غيرَ هذا العدو الشيطان. وقال أبو بكر الورَّاق[30]: لو قال لي: ما غرَّك بربك الكريم لقلت: غرّني كرم الكريم. وقال مثل هذا القول بعض أهل الإشارة...؟! إنما قال بربك الكريم دون سائر أسمائه وصفاته كأنه لقنه الجواب[31]. وهذا الذي تخيله هذا القائل ليس بطائل، لأنه إنما أتى باسمه الكريم لينبه على أنه لا ينبغي أن يقابلَ الكريم بالأفعال القبيحة وأعمال الفجور. لا سيما وأن هذه الآية نزلت في الأسود بن شريق ضرب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يعاقبْ في الحالة الراهنة فأنزل الله تعالـى: ﴿ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾.
وقوله تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ﴾ أيْ: ما غرك بالربِّ الكريم الذي جعلك سوياً مستقيماً معتدل القامة منتصبها في أحسن الهيئآت والأشكال.
وروى الإمام أحمد بسنده إلى بُسْر بن جحاش القرشي[32]: ( أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصق يوماً بكفّهِ فوضع عليها أصبعه ثم قال: قال الله عز وجل: يا ابن آدم أنّى تعجزني وقد خلقـتك من مثل هذه؟ حتى إذا سوّيتُك وعدلتُك مشيت بين بُردَيْن، وللأرض منك وئيد، فجمعتَ ومنعتَ حتى إذا بلغت التراقي قلت: أتصدق وأنّى أوان الصدقة؟ )......[صحيح] وكذا رواه ابن ماجه[33] عن أبي بكر بن أبي شيبة[34].
وقوله تعالى: ﴿ فِي أيْ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ ﴾ وفي الصحيحين عن أبي هريرة: ( أن رجلاً قال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاماً أسود. قال: هل لك من إبل؟ قال نعم، قال: فما ألوانها؟ قال حمر. قال: فهل فيها من أورق؟ قال: نعم. قال: فأنى أتاها ذلك؟ قال: عسى أن يكون نزعة عرق. قال: وهذا عسى أن يكون نزعة عرق ). والمعنى أن الله سبحانه وتعالى قادر على خلق النطفة على شكل قبيح من الحيوانات المنكرة، ولكن بقدرته ولطفه وحلمه يخلقه على شكل حسن مستقيم معتدل تام، حسن المنظر والهيئة.
وقوله تعالى: ﴿ كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ﴾ أيْ: إنما يحملكم على مواجهة الكريم ومقابلته بالمعاصي تكذيبٌ في قلوبكم بالمعاد والجزاء والحساب.
وقوله تعالى :﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ يعني وإن عليكم لملائكةً حفظةً كراماً فلا تقابلوهم بالقبائح فإنهم يكتبون عليكم جميع أعمالكم.
﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴿13 ﴾ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴿14 ﴾ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ﴿15 ﴾ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ﴿16 ﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴿17 ﴾ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴿18 ﴾ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴿19 ﴾ ﴾
يخبر تعالى عما يصير الأبرار إليه، وهم الذين أطاعوا الله عز وجل ولم يقابلوه بالمعاصي. وقد روى ابن عساكر[35] بسنده إلى ابن عمر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( إنما سماهم الله الأبرار لأنّهم بّروا الآباء والأبناء ) ثم ذكر ما يصير إليه الفجار من الجحيم والعذاب المقيم، ولهذا قال: ﴿ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ﴾ أيْ: يوم الحساب والجزاء والقيامة ﴿ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ﴾ أيْ: لا يغيبون عن العذاب ولا يخفف عنهم ساعة واحدة ولا يجابون إلى ما يسألون من الموت أو الراحة ولو يوماً واحداً. وقوله تعالى: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴾ ثم فسره بقوله: ﴿ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً ﴾ أيْ: لا يقدر أحد على نفع أحدٍ ولا خلاص له مما هو فيه إلا بإذن الله لمن يشاء ويرضى. ونذكر هاهنا حديث: ( يا بني هاشم: أنقذوا أنفَسكم من النار لا أملك لكم من الله شيئاً )..... [ صحيح. رواه مسلم ] ولهذا قال: ﴿ وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾ قال قتادة: " والأمر ـ والله ـ اليوم لله، ولكنه لا ينازعه فيه يومئذٍ أحد ". [1]