سَيف الدّولة الحَمَداني
915 ـ 967 م
هو علي بن عبد الله بن حمدان الحمداني التغلبي، من بني حمدان الذين تنتسب إليهم الدولة الحمدانية. و سيف الدولة لقبه وقد غلب عليه.
وُلد الأمير "سيف الدولة علي بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدون التغلبي" في مدينة "ميافارقين" -أشهر مدن ديار بكر- على إثر تولي أبيه إمارة الموصل.
وقد عُني أبوه بتعليمه وتنشئته على الفروسية منذ نعومة أظفاره، وأظهر سيف الدولة استعدادا كبيرا ومهارة فائقة في القنص والرمي وركوب الخيل منذ صغره.
ولم يكد يبلغ العشرين من عمره حتى صار فارسا لا يُشَقّ له غبار، وخاض العديد من المعارك الطاحنة ضد أعداء الدولة والمتمردين عليها؛ سواء في الداخل أو في الخارج.
واستطاع الأمير أن يحقق انتصارا عظيما على البريدين الذين اقتحموا بغداد عام (330هـ = 942م) ودفعوا الخليفة العباسي "المتقي لله" إلى الخروج منها، واللجوء إلى الموصل للاستنجاد بالحمدانيين، فلما حقّق الأمير سيف الدولة "علي بن أبي الهيجاء" النصر على البريدين بعد أن تعقبهم إلى المدائن، أنعم عليه الخليفة بلقب "سيف الدولة"، وأمر أن تُضرب باسمه الدنانير والدراهم.
وبدأ نجم سيف الدولة يعلو ويسطع منذ ذلك الحين؛ فحقق المزيد من الانتصارات على الروم والبيزنطيين، واستطاع أن يصدّ هجماتهم، كما تمكن من المحافظة على حدود الدولة الإسلامية ضد غاراتهم، واستطاع أن يتوغل داخل حدود الدولة البيزنطية.
وقد عُني سيف الدولة بتسليح جيشه في مواجهة استعدادات الجيش البيزنطي العسكرية القوية وتنظيمه الجيد، وتنوع تسليحه، فاتجه إلى توفير المال اللازم لتجهيز الجيش وتسليح الجنود، واهتم بتدريب رجاله وتربية جنوده تربية عسكرية صارمة.
واتخذ سيف الدولة مدينة "حلب" مركزا ليبدأ منها مرحلة جديدة من حياته؛ حيث أعلن إمارته على مناطق حلب والجزيرة الفراتية وإقليم الثغور والعواصم، وبدأ يدخل في مرحلة جديدة من الصراع مع الروم البيزنطيين والحروب الطاحنة معهم، واستطاع خلالها أن يحقق عدة انتصارات عليهم، وألحق بهم سلسلة من الهزائم المتتالية.
وبالرغم من الطابع العسكري والحربي لدولة الحمدانيين بصفة عامة، وإمارة سيف الدولة على نحو خاص، فإن ذلك لم يصرف الأمير "سيف الدولة" عن الاهتمام بالجوانب الحضارية والعمرانية.
فقد شيّد سيف الدولة قصره الشهير بـ"قصر الحلبة" على سفح جبل الجوشن، وتميز بروعة بنائه وفخامته وجمال نقوشه وزخارفه، وكان آية من آيات الفن المعماري البديع، كما شيّد العديد من المساجد، واهتم ببناء الحصون المنيعة والقلاع القوية.
وشهدت الحياة الاقتصادية ازدهارا ملحوظا في العديد من المجالات؛ فمن ناحية الزراعة كثرت المزروعات، وتنوعت المحاصيل من الحبوب والفاكهة والثمار والأزهار، فظهر البُرّ والشعير والذرة والأرز والبسلة وغيرها. كما ظهرت أنواع عديدة من الفاكهة كالتين والعنب والرمان والبرقوق والمشمش والخوخ والتوت والتفاح والجوز والبندق والحمضيات. ومن الرياحين والأزهار والورد والآس والنرجس والبنفسج والياسمين. كما جادت زراعة الأقطان والزيتون والنخيل. وظهرت صناعات عديدة على تلك المزروعات، مثل: الزيتون، والزبيب، كما ظهرت صناعات أخرى كالحديد والرخام والصابون والكبريت والزجاج والسيوف والميناء.
ونشطت التجارة، وظهر العديد من المراكز التجارية المهمة في حلب والموصل والرقة وحران وغيرها.
وشهدت الحياة الفكرية والثقافية نهضة كبيرة ونشاطا ملحوظا في ظل الحمدانيين؛ فظهر الكثير من العلماء والأطباء والفقهاء والفلاسفة والأدباء والشعراء.
وكان سيف الدولة يهتم كثيرا بالجوانب العلمية والحضارية في دولته، وظهر في عصره عدد من الأطباء المشهورين، مثل "عيسى الرَّقي" المعروف بالتفليسي، و"أبو الحسين بن كشكرايا"، كما ظهر "أبو بكر محمد بن زكريا الرازي" الذي كان أعظم أطباء العرب وأكثرهم شهرة وإنتاجا.
ومن أبرز الفلكيين والرياضيين الذين ظهروا في عصر الحمدانيين في بلاد الشام "أبو القاسم الرَّقي"، و"المجتبى الإنطاكي" و"ديونيسيوس" و"قيس الماروني"، كما عُني الحمدانيون بالعلوم العقلية كالفلسفة والمنطق، فلَمع نجمع عدد كبير من الفلاسفة والمفكرين الإسلاميين في بلاط الحمدانيين، مثل: "الفارابي"، و"ابن سينا".
أما في مجال العلوم العربية؛ فقد ظهر عدد من علماء اللغة المعروفين، مثل "ابن خالويه"، و"أبو الفتح بن جني"، و"أبو على الحسين بن أحمد الفارسي"، و"عبد الواحد بن علي الحلبي" المعروف بأبي الطيب اللغوي.
كما لمع عدد من الشعراء المعروفين، مثل "المتنبي"، و"أبو فراس الحمداني"، و"الخالديان: أبو بكر، وأبو عثمان"، و"السرى الرفاء" و"الصنوبري"، و"الوأواء الدمشقي"، و"السلامي" و"النامي".
وظهر كذلك عدد كبير من الأدباء المشهورين، وفي طليعتهم "أبو الفرج الأصفهاني" صاحب كتاب "الأغاني" الذي أهداه إلى سيف الدولة؛ فكافأه بألف دينار، و"ابن نباتة"، وظهر أيضا بعض الجغرافيين، مثل: "ابن حوقل الموصلي" صاحب كتاب "المسالك والممالك"…
وقد ظلت آثار تلك النهضة الثقافية والحضارية ذات أثر كبير في الفكر العربي والثقافة الإسلامية على مدى قرون عديدة وأجيال متعاقبة.
جاء في "وفيات الأعيان" لابن خلكان:
" سيف الدولة أبو الحسن علي بن عبد الله بن حمدان . قال أبو منصور الثعالبي في كتاب " يتيمة الدهر ": كان بنو حمدان ملوكاً أوجههم للصباحة، وألسنتهم للفصاحة، وأيديهم للسماحة، وعقولهم للرجاحة، وسيف الدولة مشهور بسيادتهم، ووساطة قلادتهم، وحضرته مقصد الوفود، ومطلع الجود، وقبلة الآمال، ومحط الرحال، وموسم الأدباء، وحلبة الشعراء، ويقال: إنه لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر ونجوم الدهر، وإنما السلطان سوق يجلب إليها ما ينفق لديها؛ وكان أديباً شاعراً محباً لجيد الشعر شديد الاهتزاز له، وكان كل من أبي محمد عبد الله بن محمد الفياض الكاتب وأبي الحسن علي بن محمد الشمشاطي قد اختار من مدائح الشعراء لسيف الدولة عشرة آلاف بيت.
ومن محاسن شعر سيف الدولة في وصف قوس قزح وقد أبدع فيه كل الإبداع، وقيل: إن هذه الأبيات لأبي الصقر القبيصي، والأول ذكره الثعالبي في كتاب " اليتيمة ":
وساقٍ صبيح لـلـصـبـوح دعـوتـه
فقام وفي أجفانـه سـنة الـغـمـض
يطوف بكاسات الـعـقـار كـأنـجـم
فمن بين منقض علينـا ومـنـفـض
وقد نشرت أيدي الجنوب مـطـارفـاً
على الجو دكناً والحواشي على الأرض
يطرزها قوس السحـاب بـأصـفـرٍ
وكانت له جارية من بنات ملوك الروم في غاية الجمال، فحسدها بقية الحظايا لقربها منه ومحلها من قلبه، وعزمنا على إيقاع مكروه بها من سم أو غيره، فبلغه الخبر وخاف عليها، فنقلها إلى بعض الحصون احتياطاً، وقال:
راقبتني العيون فيك فـأشـفـق
ولم أخل قط من إشـفـاق
ورأيت العدو يحسـدنـي فـي
ك مجداً يا أنـفـس الأعـلاق
فتمنيت أن تـكـونـي بـعـيداً
والذي بيننـا مـن الـود بـاق
رب هجر يكون من خوف هجر
وفراقٍ يكـون خـوف فـراق
فلما فرغ من إنشاده ضحك سيف الدولة ضحكاً شديداً، وأمر له بألف درهم، فجعلت في الكيس الفارغ الذي كان معه.
وكان أبو بكر محمد وأبو عثمان سعيد ابنا هاشم المعروفان بالخالديين الشاعرين المشهورين، وأبو بكر أكبرهما، قد وصلا إلى حضرة سيف الدولة ومدحاه، فانزلهما وقام بواجب حقهما، وبعث لهما مرة وصيفاً ووصيفة ومع كل واحد منهما بدرة وتخت ثياب من عمل مصر، فقال أحدهما من قصيدة طويلة:
فقال له سيف الدولة: أحسنه إلا في لفظة " المنكوح " فليست مما يخاطب الملوك بها.
وأخبار سيف الدولة كثيرة مع الشعراء، خصوصاً مع المتنبي والسري الرفاء والنامي والببغاء والوأواء وتلك الطبقة، وفي تعدادهم طول.
وكانت ولادته يوم الأحد سابع عشر ذي الحجة سنة ثلاث وثلثمائة، وقيل سنة إحدى وثلثمائة. وتوفي يوم الجمعة ثالث ساعة، وقيل رابع ساعة، لخمس بقين من صفر سنة ست وخمسين وثلثمائة بحلب، ونقل إلى ميافارقين، ودفن في تربة أمه، وهي داخل البلد، وكان مرضه عسر البول.
وكان قد جمع من نفض الغبار الذي يجتمع عليه في غزواته شيئاً وعمله لبنة بقدر الكف، وأوصى أن يوضع خده عليها في لحده، فنفذت وصيته في ذلك.
وملك حلب في سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة، انتزعها من يد أحمد بن سعيد الكلابي صاحب الإخشيد.
ورأيت في " تاريخ حلب " أن أول من ولي حلب من بني حمدان الحسين بن سعيد، وهو أخو أبي فراس ابن حمدان، وأنه تسلمها في رجب سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، وكان شجاعاً موصوفاً، وفيه يقول ابن المنجم:
وإذا رأوه مقبلاً قالوا ألا
إن المنايا تحت راية ذاكا
وتوفي يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين وثلثمائة بالموصل، ودفن بالمسجد الذي بناه في الدير الأعلى، وكنت أظن أن دير سعيد الذي بظاهر الموصل منسوب إلى أبيه حتى رأيته في كتاب الديرة منسوباً إلى سعيد بن عبد الملك بن مروان الأموي.
وكان سيف الدولة قبل ذلك مالك واسط وتلك النواحي، وتقلبت به الأحوال وانتقل إلى الشام وملك دمشق أيضاً وكثيراً من بلاد الشام وبلاد الجزيرة، وغزواته مع الروم مشهورة، وللمتنبي في أكثر الوقائع قصائد، رحمه الله تعالى.
وملك بعده ولده سعد الدولة أبو المعالي شريف بن سيف الدولة، وطالت مدته أيضاً في المملكة، ثم عرض له قولنج وأشفى منه على التلف، وفي اليوم الثالث من عافيته واقع جاريته، فلما فرغ منها سقط عنها وقد جف شقه الأيمن، فدخل عليه طبيبه، فأمر ان يسجر عنده الند والعنبر، فأفاق قليلاً، فقال له الطبيب: أرني مجسك، فناوله يده اليسرى، فقال: أريد اليمين، فقال: ما تركت لي اليمين يميناً، وكان قد حلف وغدر. وتوفي ليلة الأحد لخمس بقين من شهر رمضان من سنة إحدى وثمانين وثلثمائة وعمره أربعون سنة وستة أشهر وعشرة أيام.
وتولى بعده ولده أبو الفضائل سعد، ولم أقف على تاريخ وفاته، وبموته انقرض ملك بني سيف الدولة.
وتوفي أبو علي ابن الأخوة المذكور يوم الجمعة رابع عشر جمادى الآخرة سنة ست وأربعين وخمسمائة، وكان شاعراً مجيداً".