كان الجَزَري أول مهندس غيَّر مفهوم الهندسة باستخدامه الترس أو الدولاب المسنَّن، وذراع التدوير "الكرنك" و"المِكبس" البسْتُون وعمود التدوير ما مهد الطريق لنظام الهندسة الحديث.
شهدت مدينة "مرت" السورية الرابضة فوق تلة مشرفة على وادي البقاع بالقرب من مدينة حمص، مرحلة طويلة من البناء والترميم.
ترتفع هذه المدينة سبعمائة وخمسين مترًا عن سطح البحر، وكانت تحت سيطرة الجيش الكردي إبان الحكم الإسلامي في "دمشق"، ومن ثم سقطت بين أيدي الجيوش الصليبية قبل أن يستولي عليها الملك " الظاهر بيبرس" في عالم ألف ومائتين وواحد وسبعين للميلاد.
بنى الصليبيون الجدار داخل الحصن، بينما أنجزت أعمال التوسيع الخارجية على يد الظاهر بيبرس.
يبدو أن نظام الري كان يجري وفق طريقة تعود إلى الحضارات السابقة..
شُقَّت هذه القناة الطويلة حسب مفهوم الطريقة اليونانية القديمة.
د. رملي:
طوَّر المهندسون الرومانيون طريقة لنقل المياه من مصادرها في أعالي التلال، إلى قناة اصطناعية تسمى "قناة الجر"،ونقلوها إلى القصر أو المدينة اللذين يقعان أسفل مصدر الماء.
المعلق:
كان تدفق المياه من أعلى التلة يجعلها تفيض عن حاجة سكان المدينة.
هذه الطريقة اليونانية اكتسبت شهرة خلال حقبة الحكم الإسلامي الأولى، وقبل أن تحدث التغييرات في القرن الثالث عشر الميلادي..
تلك التغييرات أفادت المدينة بأكملها.
يُعتبر دولاب الماء أو الناعورة في الفيُّوم في "مصر"، من ضمن التغييرات الصغيرة التي حدثت خلال أوج ازدهار الحكم الإسلامي الذي حقق الرخاء للسكان الذين قطنوا المناطق الداخلية ونقلهم من حياة البداوة إلى مجتمعات مستقرة.
خلال الحكم الإسلامي، جرى تطوير نظام الري حتى انتفت الحاجة إلى الجهد الإنساني أو الحيواني.
لقد أدت هذه الآلية الهندسية إلى إيجاد مصطلح جديد هو مصطلح " أوتو – ماتا أو " آلي " الذي يعني القدرة على التشغيل طبيعيًا ومن تلقاء نفسه.
إنها آليَّة غيَّرت دور المياه وجعلت وظيفتها مزدوجة.
يعمل التيار المائي، بمساعدة الجاذبية، على تدفق الماء بشكل متتال، بينما يجري جدول الماء ليسد حاجات الناس أو ليستخدم في أعمال الري.
يُفضل الناس هنا اتباع طريقة الري الطبيعية لتفي بحاجاتهم وري مزروعاتهم، بينما استخدام المضخات الكهربائية كبديل، ينتشر على نطاق واسع في كل أنحاء العالم.
حتى اليوم، تشتهر الفيُّوم بقمحها وعنبها وزيتونها وأزهارها ومحصول قطنها ذي الجودة العالية.
المعلق:
منذ تحديث الهندسة المائية بُدء باستخدام تقنية إحضار مياه الأنهار من الأعالي لري المزروعات. وبعد أن كانت صغيرة، أصبحت حاجات اليوم تتطلَّب نواعير أكبر.
تعمل أربعة نواعير من مختلف الأحجام في مدينة حماة السورية على ري الأراضي المنخفضة وصولاً إلى سفوح التلال المحيطة بها، حيث يصل ضغط المياه إلى ارتفاع ما يعادل طبقتين من البناء.
المعلق:
على الرغم من أن "حماة" متاخمة للصحراء، إلا أن الخصوبة التي تتميز بها من خلال نظام الري هذا قد جعلها بفضل الله مركزًا زراعيًا فعالاً ينتج ما يكفي من الحبوب والخضار لسد حاجات السكان فيها.
خلال الحكم الإسلامي أخذت الدولة على عاتقها مساعدة الفلاحين وتأمين الماء إلى الحقول للري على أساس أن مبادئ الإسلام تلزمها بذلك.
إن تخطيط المدن خلال حقبة الحكم الإسلامي، أعطى أهمية كبرى لبناء المساجد والمدارس والمستشفيات بالقرب من الأنهار نظرًا لأن هذه الأماكن كانت مراكز تجمع الناس.
ومع اختراع الناعورة، تم تزويد هذه الأماكن بالحاجة لأساسية التي هي الماء.
كانت دواليب الماء تُصنع من الخشب لأسباب معينة، وهي مقاومته للماء وسهولة صناعته والحصول عليه بالإضافة إلى أن الحكومة كانت تجد سهولة في دعم بناء هذه الدواليب في كل هذه المنطقة.
تمّ اختيار خشب التوت لمميزاته المتعددة، فعروق هذا الخشب تمنح القوة للدواليب لاحتوائها على مواد طبيعية تعمل عمل الشَّحم لتخفِّف الاحتكاك.
لهذا يصمد دولاب ماء "كابي" لوقت طويل رغم أنه أصغر من الناعورة الخشبية.
نحن هنا داخل مستشفى كان يُعرف سابقًا باسم "بيمارستان"، وجرى تحويله الآن إلى مطعم.
اعتمد نظام أنابيب المياه في هذا المستشفى خلال الحكم الإسلامي.
هذا الحمَّام الشعبي والمجهَّز بالسُّونة بـ"حمَّام بخاري"، كان متوفرًا في كل المستشفيات ومخصصا للمرضى، وبشكل خاص للذين يعانون من مشاكل جسدية واضطرابات عقلية.
هذا الحوض كان يستخدم لتسخين المياه من أجل الحمَّامات البخارية.
شُيِّدت منطقة تسخين المياه بعيدًا عن النظر، وبالقرب من هذا المكان، حيث تجري المياه عبر أنبوب له صنبور للتحكُّم بكمية المياه.
المعلق:
اخترع مهندسو الدولة الإسلامية نظامًا أكثر تطورًا، كان الهدف منه استجرار مياه الري إلى وسط المدن البعيدة عن مصادر المياه والتي كانت تشهد ازدحامًا سكانيًا. فجروا المياه عبر قنوات ضيقة للحصول على تدفق أقوى، وأصبحت المياه تصل إلى المدن عبر أقنية تحت أرضيَّة وغير مرئية، وما كان أحد ليظن بأن تحت هذا الممر ثمة قناة تجري فيها تيارات مائية قوية باتجاه المناطق السكنية وباتجاه المنطقة الحكومية في وسط دمشق.
من دون تيار كهربائي، كان الضغط يدفع الماء بقوة إلى الطبقة الثانية من هذا المبنى الذي كانت تشغله حكومة المماليك، والذي شيِّد قبل ثلاثمائة عام.
المعلق:
يعود السبق في هذه الآلية إلى مهندس اسمه "باديوس"، في عهد "الجزري" المولود في عام ألف ومائة وأربعة وسبعين في مدينة "جزيري" في "تركيا".
يُعتبر كتاب "في معرفة الحيل الهندسية" والذي يعني التجهيزات الميكانيكية الذكية، من أوائل الأدلَّة الموثَّقة عن استخدام ذراع الكرنك وعمود التدوير في آلات نقل الماء.
ولقد استخدم الجزري عمودي تدوير متعاكسين لاحتجاز الماء حيث يسقطه المكبس ومن ثمّ يدفعه إلى الأعلى.
د. رملي:
باستخدام هذا النظام، أصبح من الممكن تزويد البلاد الإسلامية بالمياه حتى لو كان مصدر المياه أماكن منخفضة.
استخدم الجزيري ذراع التدوير، وطبقت هذه التقنية للمرة الأولى باستخدام مضخة لها مكبس يعمل باتجاهين ويستخدم تركيبة من دولاب مسنن وذراع تدوير الذي هو عبارة عن آلية لتحويل الحركة الدورانية إلى حركة ترددية إلى الأمام والخلف أو إلى الأعلى والأسفل بمساعدة مكبسين يتحركان بالتناوب باتجاهين متعاكسين لضخ الماء من المصدر المنخفض.
المعلق:
هذه هي الطريقة التي سمحت بتحويل المياه لتشكل تدفّقًا قويًا عن طريق الدوران والتتابع وحركات عمود التدوير.
ولقد سبقت هذه الطريقة اختراع المحرك البخاري في "أوروبا".
د. رملي:
إن المحرك البخاري الذي اخترعه "جايمس واط"، كان يستخدم فقط لضخ الماء بمساعدة المكبس.
بعد ذلك، استخدم "جايمس واط" آلية الكْرَنك أو ذراع التدوير لنقل الحركة البخارية من حركة ترددية إلى دولاب تعديل السرعة الدوار، وبذلك أصبح من الممكن استخدام المحرك في القطارات والسفن....
وفي نهاية القرن التاسع عشر، وبعد اختراع المحرك ذي الاحتراق الداخلي، تطلَّب الأمر استخدام ذراع التدوير لإدارة المحرك.
تلك هي العناصر التي أدخلت تغييرات كبيرة في تطوير الهندسة الحديثة، خاصة في تطوير المحرك البخاري بالإضافة إلى المحرك ذي الاحتراق الداخلي، والذي نستخدمه في سياراتنا اليوم.
المعلق:
بقيت عمليات ضخ المياه عبر النواعير في سوريا حتى اليوم ولا تزال ومنها نواعير حماه الشهيرة والناعورة الموجودة في الجامع العربي في "دمشق".
قبل ثلاثين عامًا، كانت هذه الأداة تستخدم لرفع المياه إلى الطبقة الثانية للجامع.
تتدفق المياه من نهر "بردى" عبر قناة مائية تحت أرضية تساعد على آلية الناعورة.
أما "الطاقة" التي تحمل الدعامات العمودية فكانت تُصنع قريبة من الناعورة لتعمل كمسرب مسطح للمسننات التي تحرّك العارضة حالما تلامس الناعورة المتحركة بشكل دائري.
أما السارية والتي هي بطول خمسة وعشرين مترًا، فهي موصولة بترس خشبي يقع في الأعلى ليساعدها على الدوران.
هذا الدولاب موصول بالدولاب المعاكس بعارضة أفقية. ودولاب الماء مربوط بسلسلة محاطة بأوعية تمتلئ بالماء.
المعلق:
أما المياه التي تُرفع، فتُسكب وتُجرُّ إلى الجامع العربي.
صُنع هذا الدولاب في العهد العثماني.
هذه الحركات الميكانيكية للتروس التي ظهرت قبل ثمانمائة عام، أصبحت الآن حافزا لحقل الصناعة في عالمنا المتطور اليوم.
والفرق الوحيد هو أن الترس القديم كان يصنع من الخشب، أما الآن فهو يصنع من النحاس أو الفولاذ.
في كتابه، يتحدث الجزري أيضا عن آليَّة ساعة الماء.
د. رملي:
الساعة المائية التي اخترعها الجزري عبارة عن آلة تعمل على ضبط نظام التغذية الاسترجاعية وهي تستخدم في صناعات اليوم الحديثة.
المعلق:
تضغط الأداة الثقيلة المتدليَّة من دولاب الماء لينزل إلى الأسفل، مما يسمح للدولاب بالدوران عكس عقارب الساعة بالتزامن مع تحريك الدولاب الآخر الذي يحرك الإبرة التي تشير إلى الوقت من واحد حتى اثنتي عشر
خلال فصل الشتاء، ومع قِصَر النهار، يُسمح بزيادة جريان الماء إلى الخارج لتعجِّل حركة الساعة.
تعمل العوَّامة عمل عمود التدوير وتساعد على إيقاف جريان الماء عندما يكون مستواه مرتفعا ويسمح له بالتالي بالجريان عندما ينخفض مستواه. وهذا ما يساعد على المحافظة على ثبات جريان الماء.
هذه طريقة دقيقة، وهي الآلية التي أوحت باستخدام عمود الدوران أثناء اختراع محرك السيارات ومضخات المياه حتى أيامنا هذه.
تنصب الجهود اليوم في مدينة حماه السورية على المحافظة على الإرث الهندسي الإسلامي، تحت إشراف المجلس البلدي.
قبل الاستعمار الغربي، كان بناء هذه الأدوات الهندسية يصنعها الناس في كل قرية ومدينة بالتعاون فيما بينهم، وبإشراف الجسم الهندسي الاستشاري الذي يترأسه الخلفاء.
المعلق:
وكان تطويرها يعتمد على تقديمات الحكومة ومن أموال الزكاة والهبات بالإضافة إلى أموال بيت المال.
ومن أجل خدمة الناس على نطاق واسع، اختير الخشب لصناعة النواعير نظرًا لرخصة وسهولة الحصول عليه مقارنة بالمعدن الأغلى والأثقل والمعرض للصدأ والذي تصعب صيانته.
فكان أن انصب الجهد على تقديم ما هو ملائم للشعب لا على الاستفادة المادية وتحقيق الأرباح.
لكن انتشار العلوم في الغرب أدى، خلال الثورة الصناعية، إلى تراجع حقل الهندسة، واستمر ذلك حتى حقبة الاستعمار والحربين العالميتين الأولى والثانية.
د. رملي:
استغلت الثورة الصناعية العمال وتم كسب الأرباح من النشاطات الصناعية من جراء المنتجات الصناعية التي تسوّق في كل أنحاء العالم.
فكانت هذه النشاطات مختلفة عن تلك التي تمارس في العالم الإسلامي الذي لا يعتمد النظم الرأسمالية بشكل واسع مقارنة بالعالم الغربي وبالتالي فان البلدان الإسلامية لم تكن قادرة على المنافسة.
المعلق:
إن فكرة تحقيق الربح في العالم الغربي أدت إلى زيادة الآثار السلبية على البيئة والناس على حد سواء.
كما أن هذا التطور قد وسَّع الهوة بين الأثرياء والفقراء من كل الأديان.
إن المطلوب بالنسبة إلى الدكتور "وان رامل" هو الانطلاق من استخدام ذراع التدوير والمكبس وعمود الإدارة التي كان الجزري أول من استخدمها لاختراع آلات حديثة لا تفيد العالم فحسب بل تكون صديقة للبيئة أيضا.
لقد أجرى بحثه بنجاح على "خليَّة الوقود" التي تولد الكهرباء لتشغيل الدراجات النارية كبديل عن استخدام الوقود المتحجر، كالبترول والغاز اللذين يستخدمان كوقود للسيارات.
وإذا كان "الجزيري" قد استخدم الماء لتشغيل حركة النواعير فإن الدكتور "وان راملي" يشغِّل الدراجات النارية باستخدام الهيدروجين والأوكسجين من الهواء حيث أن اتحادهما يعطينا الماء فقط.
وسيسعى بعد ذلك لاستخدام الوقود الصديق للبيئة لتشغيل السيارات.
بعد أن أدركت الدول الغربية تأثير استخدام الوقود الإحفوري، نجدها تتَّخذ خطوات مشابهة كهذه.
وهكذا يرى البروفسور "وان راملي" بأن ما نحتاج إليه الآن هو إعادة شحذ الروح التي أظهرها فيما مضى علماء كـ "الجزيري" لاختراع ما يفيد الإنساني