بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
مقدمة في مفهوم العبادة :
أستاذ زياد ، جزاكم الله خيراً ، الصوم بادئ ذي بدء عبادة ، ولابد من وقفة متأنية حول مفهوم العبادة :
1 – مِن صفات الإنسان الخَلقية : الجزع والهلع والضعف :
الله عز وجل خلق في الإنسان نقاط ضعف لصالح إيمانه ، ولصالح سعادته في الآخرة ، هذه النقاط .
﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ﴾
( سورة المعارج )
ومعنى هلوعًا أنه شديد الجزع ، وخلق ضعيفاً ، وخلق منوعا ، هذه النقاط تدعوه إلى أن يبحث عن إله عظيم يحتمي به ، يتصل به ، يعتمد عليه ، يتوكل عليه ، هذا هو الباعث الفطري إلى التدين ، البشر عبر الحقب والدهور بعضهم اخترع إلهاً وتوهمه إلهاً ، وعبده من دون الله ، وهذه الديانات الوثنية الأرضية ، أما عباداتها فحركات وسكنات وتمتمات ، تسمى عند علماء الاجتماع طقوس ، لا معنى لها إطلاقاً ، بينما حينما يصل الإنسان إلى الإله الحقيقي ، خالق السماوات والأرض ، الذات الكاملة ، واجب الوجود صاحب الأسماء الحسنى والصفات الفضلى ، حينما يصل إليه ويتصل به ، ويعتمد عليه ، ويقبل عليه ينهي ضعفه ،
﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ﴾
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19)إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20)وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21)إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾
( سورة المعارج )
إذاً الباعث إلى التدين في الأصل أن في خلق الإنسان في أصل كيانه نقاط ضعف ثلاثة ، هو جزوع ، وضعيف ، وعجول .
2 – العبادة ضرورية :
حينما يرى الإنسان هذا الكون ، وما فيه من عظمة لا تنتهي ، كأن هذا الكون يشف عن إله عظيم ، هذا الإله قوي ، وغني ، ورحيم ، وحكيم ، وكمال الخلق يدل على كمال التصرف ، فلا بد لهذا الإله العظيم من أن يرسل إلى عباده رسلاً ، ولا بد لهذا الإله العظيم من أن ينزل على رسله كتباً ، بين أيدينا كلام الله عز وجل ، هذا الكتاب يعرفنا بحقيقة الكون ، وحقيقة الحياة ، وحقيقة الإنسان ، ويأمرنا بعبادات كي نشحن بها متصلين بالله عز وجل .
الصيام أحد هذه العبادات ، ويمكن أن أعرج قليلاً على أن العبادات منها ما هو تعاملي ، كالصدق ، والأمانة ، والعفة ، والوفاء بالوعد ، وإنجاز العهد ، ومنها ما هو شعائري ، كالصلاة ، والصوم ، والحج ، والزكاة .
فالصلاة شحنة إلى الصلاة التالية ، وصلاة الجمعة شحنة إلى الأسبوع القادم بينما الصيام شحنة سنوية ، في هذا الصيام يدع الإنسان المباحات ، يدع الطعام والشراب ، يدع ما هو مباح له في أصل الشريعة ، فلأن يدع ما هو محرم عليه من باب أولى .
ذلك أن العبادة في أصلها طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفة يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية .
الإنسان يبحث عن سلامته وسعادته ، يشقى حينما يضل الطريق ، بل إن أزمة أهل النار في النار أزمة علم فقط .
﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾
( سورة الملك )
هذا الكيان البشري لا يسلم ولا يسعد إلا إذا طبق تعليمات الصانع ، هذا الخالق العظيم له تعليمات ، وما من آلة بالغة التعقيد غالية الثمن ، عظيمة النفع إلا معها تعليمات التشغيل والصيانة ، والإنسان أعقد آلة على وجه الأرض ، فحينما يتعرف الإنسان إلى خالقه ويتعرف من خلال الكتب التي أنزلها ، إلى سر وجوده ، و إلى غاية وجوده ، وإلى مهمته في الحياة الدنيا ، وإلى أنه يحمل رسالة ينبغي أن يؤديها ، حتى يسعد في جنة عرضها السماوات والأرض ، الإنسان حينما يتيقن أنه مخلوق للجنة يحرص على طاعة الله ، ويتقي أن يعصي الله ، بل يبني حياته على العطاء ، يقول الله عز وجل :
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾
( سورة الليل )
كلام دقيق جداً الناس على اختلاف مللهم ، ونحلهم ، وانتماءاتهم ، وأعراقهم وأنسابهم ، وطوائفهم ، ودياناتهم ، لا يزيدون عن نموذجين عند الله عز وجل ،
﴿ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾
صدق أنه مخلوق للجنة ، فاتقى أن يعصي الله ، وبنى حياته على العطاء .
الطرف الآخر كذب بالحسنى ، كذب بالجنة وآمن بالدنيا .
﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾
( سورة الروم )
لما كذب بالجنة ، وآمن بالدنيا استغنى عن طاعة الله ، وبنى حياته على الأخذ .
الأستاذ زياد :
كيف تكون هذه الطاعة في منتهى الرقي ، لا يخدشها أي تصرف ، قد يكون فقهاً تصرفاً جائزاً ، ولكن تعبدياً فيه ما يخدش هذه العبادات .
الصيام :
الدكتور راتب :
1 – الصيام تقويةٌ لإرادة الإنسان :
حينما تضعف إرادةُ الإنسان عن أن يحمل نفسه على طاعة الله يأتي رمضان ليقوي هذه الإرادة ، الله عز وجل منعه أن يأكل ويشرب ، والطعام والشراب مباح في كل أشهر العام ، منعه أن يقرب أهله ، وشيء مباح في الليل ، وفي بقية أشهر العام ، معنى ذلك أن الله منعه من المباحات ، فإذا اقترف المعاصي والآثام اختل توازنه ، ليس معقولاً أن تدع الطعام والشراب وهو مباح ، وأن يكذب الإنسان ، وأن يملئ عينيه من الحرام ، وأن يتصرف تصرفاً لا يليق بالإنسان .
إذاً : كأن الله بهذه العبادة أراد أن يقوي إرادتنا إذ أن الإنسان إذا أطاع الله سعد في الدنيا والآخرة .
بل إن الناس جميعاً لا يزيدون عن رجلين ، رجل عرف الله فانضبط بمنهجه ، وأحسن إلى خلقه فسعد في الدنيا والآخرة ، ورجل غفل عن الله ، وتفلت من منهجه فشقي في الدنيا والآخرة .
الصيام أستاذ زياد جزاكم الله خيراً يقوي إرادة الإنسان في طاعة الرحمن ، هذا شيء مهم جداً .
2 – الصيام قفزة نوعية للمسلم :
وكأن الله أرادنا في رمضان أن نقفز قفزة نوعية ، أي أن نحمل أنفسنا على الصلوات التامة ، أن نؤديها أداء متقناً ، أن نستيقظ على صلاة الفجر ، أن نذكر الله قليلاً أو كثيراً ، أن نتلو القرآن ، أن نغض أبصارنا عن محارم الله ، أن نضبط ألسنتنا ، أن نضبط آذاننا ، أن نضبط دخلنا ،وإنفاقنا ، أن نضبط بيوتنا ، حينما يشمر الإنسان ليصطلح مع الله ويفتح معه صفحة جديدة ، صدق أستاذ زياد أن هذا الشهر العظيم كما قال سيد الأنبياء والمرسلين :
(( من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ))
(( من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ))
[ متفق عليه ]
فكأن هذا الإنسان المسلم وهو على مشارف رمضان متاح له أن يفتح مع الله صفحة جديدة بالمصطلح الحديث .
الأستاذ زياد :
وفي كل سنة تمر علينا ، ويتجدد هذا اللقاء ، ويمن الله علينا ، بأن يبلغنا رمضان هذا فرصة جديدة دائماً ، لكي نكون بتجدد العهد مع الله سبحانه وتعالى ، وهو الغني عن طاعتنا وعبادتنا ، وهو لصالح الإنسان .
3 – فرضُ الصيام لسعادة الإنسان :
الدكتور راتب :
﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾
( سورة الزمر الآية : 7 )
ذلك لأنه خلقنا ليسعدنا ، خلقنا لجنة عرضها السماوات والأرض ، ورد في بعض الأحاديث القدسية :
(( إني والجن والإنس في نبأ عظيم : أخلق ويعبد غيري ، وأرزق ويشكر غيري خيري إلى العباد نازل ، وشرهم إلي صاعد ، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أفقر شيء إلي ، من أقبل علي منهم تلقيته من بعيد ، ومن أعرض عني منهم ناديته من قريب ، أهل ذكر أهل مودتي ، أهل شكري أهل زيادتي ، أهل معصيتي لا أقنتهم من رحمتي ، إن تابوا فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ، ))
[ أخرجه الحكيم البيهقي في شعب الإيمان عن أبي الدرداء ]
الله عز وجل يدعونا في رمضان إلى الصلح معه ، يدعونا في رمضان أن نتوب إليه ، يدعونا في رمضان أن نقبل عليه ، يدعونا في رمضان أن نذوق طعم القرب منه ، أكل وشرب واستمتع بمباهج الدنيا ، عليه في رمضان أن يذوق طعم القرب في رمضان .
فلو شاهدت عيناك من حسننا الذي رأوه لمـــــا وليت عنا لغيرنا
ولــو سمعت أذناك حسن خطابنا خلعت عنك ثيــاب العجب وجئتنا
ولـــو ذقت من طعم المحبة ذرة عذرت الذي أضحى قتيلا بحبنــا
ولـــو نسمت من قربنا لك نسمة لمت غريباً واشتياقاً بقربنـــــا
فما حبنا سهل وكل من ادعى سهولته قلنا له قد جهلتنــــــــــا
***
هي دعوة من الله عز وجل .
خاتمة وتوديع :
الأستاذ زياد :
جزاكم عنا الله خير جزاء ، أشكركم فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، نجدد اللقاء بإذن الله تعالى في أيامنا المقبلة خلال هذا الشهر الكريم المبارك ، وفي هذا البرنامج ، أشكر الإخوة المشاهدين لحسن متابعتهم ، غداً يتجدد اللقاء ، أسأل الله لكم صياماً مقبولاً ، ودعاءاً مستجاباً .
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .