بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الواعد الأمين اللهمّ لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنَّك أنت العليم الحكيم، اللهمّ علِّمنا ما ينفعنا، وانْفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علمًا، وأرِنا الحقّ حقًا وارزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطلا وارزقنا اجْتِنابه، واجْعلنا مِمَّن يستمعون القَوْل فيتَّبِعون أحْسَنَهُ، وأدْخِلنا بِرَحمتِكَ في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، لازلنا في موضوع الصّيام، وقد وصلنا إلى مفسدات الصّيام والمفسدات أيها الإخوة على نوعين: مفسدات توجب القضاء فقط، ومفسدات توجب القضاء والكفارة.
فأما المفسدات التي توجب القضاء فقط، فهي إذا تناول الصائم في أداء رمضان شيئًا ووصل إلى جوفه، وكان ممَّا لا يتغذى به عادةً، ولا يعتاد أكلهُ كالأرزّ النيئ، العجين الدقيق الملح، نواة تمرة، حصاة، ورق كتابة، شيءٌ لا يعتاد أكله، ولا يُؤلفُ، إذا وصل إلى جوف الصائم يوجبُ عليه القضاء فقط دون الكفارة، هذا هو الحكم الأوَّل.
تراب، شيءٌ لا يقبلهُ الطَّبع، رزّ نيئ، عجين، طحين، إذا أكل شيئًا ممَّا لا يعتاد أكله، ممّا ينفر الطَّبع منه، فوصَل إلى جوْفه فعليه القضاء دون الكفارة.
إذا تناوَلَ غذاءً أو دواءً لعُذْرٍ شرعي، كالمرض والسَّفر، مريضٌ تناوَلَ طعامه ومسافر تناول غذاءهُ، أو دواءً، هناك عُذْرٌ شرعي، أيضًا هذا يوجب القضاء لا الكفارة.
من أكل أو شرب مضْطرًّا، أو مكرهًا، ومعنى مضْطرّ على وشك الهلاك فأكل على وشك الموت عطشًا شرب، أكل وشرب مضطرًّا، هذا يوجب القضاء لا الكفارة.
من أكل وشربَ مكرهًا تحت قوَّة السِّلاح إذا لم تأكل قُتِلْت، أكلت وشربْت الأوّل مضطرّ، والآن مكره، وهناك فرْق بينهما، من أكل أو شرب مضطرًا أو مكرها يوجب عليه القضاء لا الكفارة.
الآن إذا دخل إلى جوف الإنسان شيءٌ خطاً وهو يتمضْمض، بالغَ في المضمضة مع أنّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول: بالِغْ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائمًا..." وهو صائم بالغَ في المضمضة فابْتَلَعَ شيئًا من الماء، يجب عليه القضاء لا الكفارة.
فلو أنّ الواحد شرب ماءً أثناء المضمضة فابْتَلَعَ ماءً، وتوهَّم خطأً أنَّه أفطَر وهو أفْطر، لكن عليه أن يمْسك بقيَّة اليوم، هذا الحكم لا يعرفهُ، ما دُمْتُ قد أفطرْت بدأ يأكل، الآن أكل وشرب ظانًّا أنّ خطأهُ السابق جعله مفطِراً أيضًا يجب عليه قضاء ذلك اليوم.
في المذهب الحنفي الحقنة الشرجيَّة تفطر، لأنَّها دخول ماءٍ إلى الجوف، هذا الموضوع خلافي، بعض العلماء يرَوْن أنّ دخول الطَّعام والشَّراب إلى الجوف عن الطريق المألوف وهو الفم ؛ هذا الذي يُفطر، وبعضهم أخذ في الاحتياط، فقال: وُصول شيءٍ إلى الجوف، ولو من جهة ليْسَت معتادة هذا أيضًا يُفْطر، لذا قاسوا عليه صبّ الدواء في الأنف والأذن، واستعمال النشوق والسّعوط، واستعمال الأدوية الطيَّارة بطريقة التَّنفّس أو التبخير وإدخال الهواء بالحنجرة، هذا كلّه دخلْنا في الخلافيَّات، والأحْوَط إذا لمْ يكن مضطرًّا الإنسان وإذا لم يكن مضطرًّا له أن يُفطر إذا كان مريضًا.
إذا أمسك عن الطّعام والشراب، ونسيَ أن ينْوي، الأفضل أن ينْوي الإنسان عن طول شهر رمضان، ولكن إذا أراد أن ينْوي كلّ يومٍ عن حِدَة وفي يومٍ ما نوى، وأمسك عن الطعام والشراب بلا نيَّة، هذا اليوم يجب أن يصومهُ ثانيَة، وعليه القضاء دون الكفارة.
الآن أكل وشرب، وقد ظنّ أنَّ الفجر لمْ يطلع، ثمَّ تبيَّن أنّ الفجر قد طلع، سمع الأذان فظنَّه أذان الإمساك، فشرِبَ كأس ماء، ولمَّا انتهى الأذان عرف أنَّ هذا الأذان أذان الفجر إذًا عليه أن يصوم مكان هذا اليوم، يجب أن يقضيَهُ دون كفّارة، هذه كلّها أشياء توجب القضاء لا الكفارة.
مثال آخر، لو أنَّه سمع أذان المغرب فظنَّه مغربَنا، فإذا هو مغرب بلدٍ آخر، فأكل عليه أن يقضي هذا اليوم.
الآن من اسْتقاء ؛ تكلَّفَ القيْء عمْدًا، وكان القيءُ ملء فمِهِ، لقول النبي عليه الصلاة والسلام:
((من استقاء عمْدًا فلْيَقْضِ))
الآن من أكل ما بين أسنانه، وكان قدْر الحمصة، وهذه نادرة، سمسمة والإنسان عليه أن يجهد بِغَسل أسنانه جيِّدًا، أما إذا بقيَ شيئًا، وكان حجمهُ قدْر الحمصة عليه أن يقضيَ يومًا مكانه.
إذا أنشأ السَّفر بعد الفجر، هذا مخالف للسنّة، عليه أن يقضي ذلك اليوم.
لمزيد من الفائدة أعيد عليكم بشكل سريع الأشياء التي تفسد الصَّوم، وتوجب القضاء لا الكفارة:
من أكل شيئًا لا يتغذى به عادةً، ولا تألفه الطِّباع، عجين، رزّ نيئ، ورقة، فإذا الطالب معه ورقة وخاف من المراقب، وبلعها ؛ هذا يفطِر وأذْهب عليه يومًا، وهذا يفعلهُ الطلاب، عجين، نخالة، دقيق، تراب، أيّ شيءٍ تنفر الطِّباع منه، ولا تألفهُ الطِّباع، ولا يُتغذَّى منه، إذا أكله الصائم يجب عليه القضاء لا الكفارة.
إذا أكل طعامًا مألوفًا، أو دواءً لِعُذرٍ شرعي، مرض، أو سفر يجب عليه القضاء لا الكفارة.
ومن أكل أو شرب مضطرًّا على وشك الموت عطشًا، انْهارَت قِواهُ جوعًا هذا أكل مضطرًّا أو شرب، ومن أكل أو شرب مكرهًا تحت قوَّة السلاح، وهذا الذي يُهدِّدُه يفعلُ ما يقول وغلبَ على ظنِّه أنَّه، هذا عليه القضاء لا الكفارة.
ومن دخل إلى جوفهِ ماءٌ أو طعامٌ خطأً، كمن تمضْمَض، وسبق الماء إلى جوفه هذا يجب عليه القضاء لا الكفارة، ومن فعل شيئًا يوجب القضاء، فظنّ أنَّه أفطرَ فأكلَ أكلاً عاديًّا أثناء المضمضة صباحًا دخل ماءٌ إلى جوفه، فظنَّ أنَّه أفْطر، فأكل أكلاً عاديًّا، هذا غلط، من أفْطَر مخطئًا عليه أن يمسك عن الطعام والشراب بقيَّة اليوم حُرْمةً لهذا الشهر العظيم.
الحقنة الشَّرجيَّة، دواء في الأذن، في الأنف، نشوق صعود، أدْويَة طيّارة لمَن يشْكون الرَّبو، كلّ شيءٍ وصَل إلى الجوف، إما إلى الرئة عن الأنف أو الأذن أو طريق الحنْجرة، أو طريق الشَّرْج، هذا في الأحوط يوجب القضاء لا الكفارة، إذا قلنا مريض، هذا عليه أن يفطر.
إذا أمسك عن الطعام والشراب يومًا كاملاً من غير نيَّة، هذا يجب عليه القضاء لا الكفارة.
أكل ويظنّ أنَّ هذا الأذان أذان الإمساك، فإذا هو أذان الفجر، أو سمع الأذان فظنَّه أذان المغرب، فإذا هو أذان مغربٍ آخر بغير بلدنا، هذا يجب عليه القضاء لا الكفارة.
ومن استقاء عمدًا، هذا يجب عليه القضاء لا الكفارة، ومن أكل ما بين أسنانه وكان فوق الحمصَة، هذا يجب عليه القضاء لا الكفارة.
من أنشأ سفرًا بعد الفجر، وهذا مخالفٌ للسنّة، لأنَّ السَّفر لا ينعقد إلا فعلاً لا نيَّةً يجب أن تسافر قبل الفجر، أما إذا سافرْتَ يجب أن تُتِمَّ الصِّيام، فإذا بلغَتْ بك المشقَّةُ أوْجَها لك أن تفْطِرَ.
والآن إلى قصَّة صحابيّ جليل، وهو سيّدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه.
شيءٌ يلفتُ النَّظر، وهو أنَّ هذا الصحابيّ الجليل، وهو على قمّة عمره الطويل عاش تسعينَ عامًا، قال هذه الكلمة: لقد بايَعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فما نكثْتُ، ولا بدَّلْتُ إلى يومي هذا، ولا بايعْتُ صاحبَ فتْنةٍ، ولا أيْقَظْتُ مؤمنًا من مرقده.
أردْتُ أن أُعلِّق على هذه المُبايَعَة، هل بايعَ أحدُنا الله عز وجل ؟ هل عاهدهُ على السَّمع والطاعة ؟ في المنشط والمَكْرَه ؟ إذا عاهَدَهُ عهْدًا ما هل نقضَ هذا العهْد أم هو على عهْده ؟ أحيانًا الإنسان بِساعات الشِّدّة يُعاهد الله عز وجل على ترْك كذا وكذا، وفعْل كذا وكذا، أحيانًا يكتب عهدهُ كتابةً، طيِّب أنت إذا عاهدْت الله عز وجل، أين أنت من عهْدك ؟ قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)﴾
[ سورة الصف ]
الإنسان لأَن يسقط من السماء إلى الأرض فتنْحطِمَ أضلاعهُ أهْوَنُ من أن يسقُط من عَين الله، فالإنسان في ساعة من ساعات الشدّة، وفي ساعة من ساعة الضِّيق قد يُعاهدُ الله عز وجل، لكنَّ الله عز وجل كأنَّه يعْتَبُ على عباده فيقول:
﴿وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)﴾
[ سورة الأعراف ]
كثيرًا ما يُعاهدون الله عز وجل عند الشدَّة فإذا جاء الرَّخاء نسُوا ذلك العهْد أما البطل هو الذي إذا عاهد عهْدًا لا ينساهُ أبدًا، ولا ينكُثُ عهْدَهُ، فهذا الصحابي الجليل قال: بايَعْتُ رسول الله ؛ متى بايعَهُ ؟ دون العشرين أمضى سبعين عامًا على عهده ! يا ترى الدنيا تغيِّر يكون الإنسان فقير فيُعاهِدُ ربَّهُ على الطاعة، يأتي إليه المال من كلّ حدب وصَوْب فيَحْملُه على معْصِيَة الله ! أين العهْد ؟ فالذي عندهُ ضمير حسَّاس، ونفَس صافِيَة دائمًا يسأل نفسهُ هذا السؤال أين أنت من العهْد الذي عاهدْت فيه ربَّك ؟ هذا الصحابيّ بايَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قال: فما نكثْتُ ولا بدَّلْت إلى يومي هذا، كلمة بدَّلتُ هذه قرآنيَّة قال تعالى:
﴿وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)﴾
[ سورة الأحزاب ]
أنت تُعاهِدُ من ؟ تعاهدُ خالق الأكوان، تعاهد الله عز وجل، خالقٌ معك مطَّلِعٌ على حالك، بصير بها، يسمع قولك، عليم بما في قلبك، كيف تنكث العهْد معهُ ؟
كان هذا الصحابيّ مولعًا باتِّباع، واللَّفظ الصحيح لهذه الكلمة هو مُولَعًا وليس مُوَلَّعًا لأنَّ المُوَلَّع هو الثَّور الأحمر، يجب أن تقول فلان مولَع فكان هذا الصحابيّ الجليل مولعًا باتِّباع رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتَّى أن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالَت مرَّةً: ما كان أحدٌ يتْبعُ آثار النبي صلى الله عليه وسلَّم في منازله كما كان يتْبعُهُ ابن عمر، أيْ أنَّ ابن عمر يتَّبِعُ سنَّة النبي صلى الله عليه وسلَّم بِشَكلٍ دقيق جدًّا، لذلك أنا من درسيْن سألْتُ بعض الإخوان الكرام، الحبّ شيءٌ داخلي، شعور داخلي، كلّ إنسان يدَّعي أنَّه يحبّ الله عز وجل:
وكُلٌّ يدَّعي وصْلاً بليلى وليلى لا تقرّ لهم بذاك
فهل هناك علامة للحبّ ؟ فقال لي بعضهم: إتباع النبي ! لقول الله عز وجل:
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)﴾
[ سورة آل عمران ]
فاتِّباع النبي علامة الحبّ في مأكلِهِ، وفي مَشْربِهِ، وفي نومِهِ، وفي صلاته، في صيامه، وفي أحواله، وفي ذِكْرِه، وفي دعائه، في علاقته بعلاقة بيته، وبإخوانه وجيرانه وبإخوانه، وفي رقّته، وفي حِلْمِهِ، في صبره، وفي تواضعه، في يقينه وفي زهده، النبي جعله الله لنا قدوةً فما كان أحدٌ يتَّبعُ آثار النبي في منازله كما يتبعُه ابن عمر.
قال أحدهم: اللّهمّ أبْقِ عبد الله ابن عمر ما أبْقيْتَني كي أقْتدي به، فإنِّي لا أعلم أحدًا على الأمر الأوَّل غيره ! إتباعه الشديد لِسُنَّة النبي عليه الصلاة والسلام أصبحَ قدوةً لأنَّ سيّدنا ابن عمر عاش تسعين عامًا، وبالمناسبة آخر صحابي تُوفِّي اسمهُ أنس بن مالك، توفِّي في السنة الواحدة والتِّسْعين للهجرة، وسيّدنا ابن عمر كان من المعمِّرين، وكان من الصحابة الذين مدَّ الله في حياتهم فعاشوا إلى زمن بني أُميَّة، وكان متَّبِعًا لسُنَّة النبي عليه الصلاة والسلام اتِّباعًا دقيقًا حتى أنَّ هذا الإنسان قال: اللّهمّ أبْقِ عبد الله ابن عمر ما أبْقيْتَني كي أقْتدي به، فإنِّي لا أعلم أحدًا على الأمر الأوَّل غيره !
كذلك كان له موقفٌ علميّ دقيق، فقد كان وقَّافًا عند قول رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لا يزيد ولا ينقص، فقال عنه مُعاصِرون: لم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أحدٌ أشدَّ حذرًا من أن لا يزيد على حديث رسول الله أو ينقص منه من عبد الله ابن عمر، لأنّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول: من كذب عليّ متعمِّدًا فليتبوَّأ مقعده من النار..." أي إذا كنت تعلم أنَّ هذا الحديث ما قالهُ النبي عليه الصلاة والسلام، وتقوله أنت لِتُوهم الناس أنَّ النبي قاله قال: فلْيتبوَّأ مقعَدَهُ من النار، بل هناك حديثٌ أخطَر من هذا: من روى عنِّي حديثًا يعلم أنَّه كذب هو ما تحقَّق، وأيضا هذا الإنسان ملوم.
إذًا لم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أحدٌ أشدَّ حذرًا من أن لا يزيد على حديث رسول الله أو ينقص منه من عبد الله ابن عمر.
علَّمَنا هذا الصحابي الجليل الروح العلميَّة، فمرَّةً جاءهُ سائلٌ يستفتيه، فلمَّا ألقى على ابن عمر سؤالهُ أجابهُ قائلاً: لا عِلْم لي بما تسأل عنه ! صحابي جليل مُعَمِّر، وله باعٌ طويل ما رأى في هذا نقيصَةً، ولا ثُلْمةً، ولا موقِفًا يُسْتحيى، قال: لا أعلم، فلمَّا ذهب الرجل إلى سبيله، وما إن ابتَعَدَ خُطوات، حتى قال ابن عمر، وقد فرك كفًّا بِكَفّ، سُئِلَ ابن عمر عمَّا لا يعلم فقال: لا أعلم ! هذه نقطة دقيقة، وهي أنَّ الإنسان يُوَطِّن نفسهُ، فإما أن يقول بِعِلْم، أو أن يسكت، أو أن يقول: لا أعلم، هذا وِسام شرفٍ للإنسان، فهذا الذي يعلمُ كلّ شيءٍ صدِّقوني لا يعلمُ شيئًا، فالذي يعلمُ كلّ شيء لا يعلمُ شيئًا، لكنَّ العالم هو الذي يقول: لا أعلم إذا كان لا يعلم وإذا كان يعلم يجب أن يقول: إنّي أعلم، وهذا هو الجواب، وأيضًا كِتمات العلم غلط، فالله عز وجل أخذ على العلماء العهْد، قال تعالى:
﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)﴾
[ سورة آل عمران ]
فَكِتْمان العِلم خطأ كبير، وأن تقول ما لا تعلم خطأ أكبر، والعلم أمانة والنبي عليه الصلاة والسلام أمين وحي السّماء، والعالم أمين على الحقّ الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، لا ينبغي أن يزيد، ولا ينبغي أن ينقص منه شيئًا.
سيّدنا عثمان ارتاى أن يجعل ابن عمر قاضيًا عنده، فعرضَ عليه هذا المنْصب فاعْتذَر سيّدنا ابن عمر، فألحَّ عليه عثمان، فأصرَّ على اعْتِذاره، فسألهُ عثمان: أتَعْصيني فأجابه ابن عمر: لا، ولكن بلغني أنّ القضاة ثلاثة ؛ قاضٍ يقضي بِجَهْلٍ فهو في النار، وقاضٍ يقضي بهَوًى فهو في النار، وقاضٍ يجتهدُ فَيُصيب فهو كفاف ؛ لا وِزْر ولا أجر !! هذا الذي يجتهد ويصيب كفاف، لا وِزر ولا أجر، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال: قاضٍ في الجنَّة وقاضيان في النار..." وبعضهم يقول: في آخر الزَّمان قاضِيان في النار، وقاضٍ في جهنَّم أي كلّهم في النار فهذا حجرٌ قيل عنه عبدَ الله خمسين عامًا، فضجَّ بالشَّكوى إلى الله عز وجل وقال: يا رب، عبدتُكَ خمسين عامًا، وتضعني بأُسّ كنيف، أي مرحاض ! فقال الله له: تأدَّب يا حجر إذْ لمْ أجْعلك في مجلس قاض ظالم والقصَّة المعروفة، في ذلك الرجل الذي كان يطوف حول الكعبة وهو يقول: ربّ اغْفر لي ذنبي، ولا أظنّك تفعل، مشى وراءهُ رجل، وقال له: يا هذا، ما أشدَّ يأْسكَ من رحمة الله ؟، فقال: ذنبي عظيم، فقال: وما ذنبكَ ؟ فحكى له ذنبًا كبيرًا جدًّا، قتل وسرقة، فدخل إلى بيت، قتل الرجل، وكان في قمع فتنة، والفتنة قمِعَت وأحلَّت المدينة لأحد الجنود فدخل لأحد البيوت، في البيت رجل قتلهُ، وهناك امرأة وولدان، فقال للمرأة اعْطني ما عندك، فأعْطتْهُ ذرعًا، وسبعة دنانير ذهبيَّة، فقتل ولدها الأوَّل، فلمّا رأتْهُ جادًّا في قتْل الثاني أعْطتْهُ ذرْعًا مُذْهبة، فلمَّا أمْسكها أعْجبتْهُ، فإذا على الذِّرع بيتان من الشِّعر هما:
إذا جار الأمير وحاجباه وقاضي الأرض أسرف في القضاء
فويـل ثمّ ويل ثمّ وَيْلٌ لِقاضي الأرض من قاضي السـماء
فقال له: هذا ذنبي ! لذا موضوع القضاء ليس بالسَّهل، أحيانًا تكون أنت مُحكَّم تِجاري أيضًا، هناك قاضي بعهد الرشيد من أشهر القضاة، ومن أنْزَهِهِم، طُرِقَ بابه في رمضان، وكان هذا القاضي مُحِبًّا للرُّطَب، وهناك رطب غاليَة جدًّا، فالنتيجة جاءهُ طبقٌ من التَّمر، فسأله الخادم من جاء به ؟ فقال رجل شكلهُ كذا وكذا، فعرف هذا القاضي أنَّ هذا الرجل له قضيَّة عنده، فأمر الخادم أن يردّ هذا الطَّبَق، في اليوم التالي وقف أمامه هذا الرجل الذي قدّم هذا الطَّبق ورُدَّ، والثاني، تمنَّى القاضي أن يكون الحق مع هذا الذي قدّم طبق التَّمر ! هذه التَّمَنِّي عدَّهُ خيانةً لِمَنْصِب القضاء على الرغم من أنَّه ردَّ التَّمر، ولكن تمنَّى أن يكون صاحب هذا الطَّبق الذي قدَّم التَّمر، وردّه هو صاحب الحقّ، فذهب إلى الخليفة يستعفيه من منْصب القضاء فلذلك القضاء مسؤوليَّة كبيرة جدًّا.
سيّدنا ابن عمر يبْدو أنَّه خاف هذا المنصب، فقال له عثمان: أتعْصيني ؟ قال: لا ولكن بلغني أنّ القضاة ثلاثة ؛ قاضٍ يقضي بِجَهْلٍ فهو في النار، وقاضٍ يقضي بهَوًى فهو في النار، وقاضٍ يجتهدُ فَيُصيب فهو كفاف ؛ لا وِزْر ولا أجر !! أعفاه عثمان بعد أن أخذ عليه العهْد بأن لا يُخْبِرَ بهذا أحدًا، لأنَّه إن أخبر الناس بهذا عندئذٍ لا أحدَ في المملكة يقبل هذا المنصب.
مرَّةً المنصور عرض القضاء على رجل تابعي، فهذا التابعي قال له: فلان أفضل مِنِّي، فاحْتار الأمر، والاثنان رفضَا، فقال أحدهما: والله يا أمير المؤمنين أقسم بالله أنّ أخب فلان أفضلُ منِّي ! فإن كنتُ كاذبًا في هذا اليمين فلا ينبغي أن تولِّيَ القضاء لِكاذب، وإن كنت صادقًا فلا ينبغي أن تولّيَني، وفي الأمَّة من هو أفضلُ مِنِّي ! ضيَّقَ عليه، إن كنتُ كاذبًا في هذا اليمين فلا ينبغي أن تولِّيَ القضاء لِكاذب لأنَّك ستأخذ، وإن كنت صادقًا، وصدَّقتني، فلا ينبغي أن تولّيَني، وفي الأمَّة من هو أفضلُ مِنِّي ! ماذا قال الثاني ؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين لقد حلف يمينًا، وحنثَ بها، وعنده أن يفدي هذه اليمين أهْوَنُ من أن يكون قاضيًا عندك !! أن يفْدِيَ يمينهُ بِكَفَّارة أهْونُ من القضاء، فهو تلافى هذا المنصب بهذا اليمين، وكان هناك ورع.
تجد أبًا تأتي بنته عنده، وتقول: سآخذ هذا الشيء لأمي، أنت لسْت قاضي، لكن أنت أب، فالانحِياز للبنت دائمًا، يجعلك تصدِّقها، وعندها كلّما تتكلّم فهي صادقة ! أخذ موقفًا عنيفًا من الصِّهر اسمَع منه، أنت الآن قاضي، بنتك حكَت أشياء صحيحة، ولكن ما حكَتْ عن الأشياء التي فعلتها معه، حكَت لك أنّه قال لها كذا وكذا، أو ضربها، ولكن اسْمَع ماذا قالَت له هي ؟! فأحيانًا الأب يكون قاضيًا وهو لا يدري، وأحيانًا يحكم التاجر بين تاجرَيْن، هذا صاحبه وهذا لا يعرفُهُ، فالإنسان إذا مال في تَحكيم تِجاري، وفي تحكيم عائلي، وفي تحكيم أُسَري أحيانًا المعلّم يأتيه طفلٌ صغير، ويشتكي على الآخر فيضرب الاثنان ! ما الذي حدث ؟ هذا طفل صغير، وأنت بهذا ربَّيْت في نفسه الحِقْد، ربَّيْت بنفسه الظُّلْم، النبي عليه الصلاة والسلام علَّمنا مرَّةً ببَعض الغزوات شابّان، أحدهما أجازه، والثاني ما أجازهُ، فالثاني بكى بكاءً شديدًا فجاءَت أمُّه، والنبي على وشك معركة، والأمر حاسم، وخطير، فما منعَهُ انشِغاله للإعداد لهذه المعركة عن أن يستدعي ذلك الشاب الذي لم يجِزْهُ، فتصارع الاثنان أمامه فأجاز الأوَّل لطوله، وقوَّته والثاني لغلبتِهِ، فاحْترام شخصيَّة الطِّفل جزءٌ أساسيّ في التربيَة، لو كان طفلاً صغيرًا، حقِّق معه وأجِبْهُ، فالأب قاضي، والزوج، والتاجر قاضي، والقاضي قاضي.
هذا الصحابي الجليل سيّدنا ابن عمر رأى في شبابه رؤيا فسَّرها له النبي عليه الصلاة والسلام تفسيرًا جعل قيام الليل منتهى آمال عبد الله، قال هذا الصحابي الجليل: رأيْتُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم كأنّ بيديّ قطعة إستبرق - قماش فاخر- وكأنَّني لا أريد مكانًا من الجنّة إلا طارَتْ بي، هذه القطعة من القماش إستبرق، أيّ مكان أراده في الجنَّة طارَتْ به إليه، ورأيْتُ كأنَّ اثنين أتياني، وأراد أن يذهبا بي إلى النار فتلقَّاهما ملكٌ فقال: لا تُرَع فتَخَلَّيا عنِّي، قالت: فقصَّتْ حفصة - أخته - على النبي عليه الصلاة والسلام رؤيايَ، فقال عليه الصلاة والسلام: نعْم الرجل عبد الله لو كان يصلّي من الليل فيُكْثرُ ! اسْمعوا ؛ ومن ذلك اليوم إلى أن لقِيَ ربَّهُ، لمْ يدَع قِيام الليل يومًا واحدًا، لا في حِلِّه، ولا في ترحاله، كان كلام النبي عليه الصلاة والسلام غالي جدًّا عليهم، والعهْد مع الله تعالى أغلى، فلذلك هكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: كان يصلّي ويتلو القرآن، ويذكر ربَّه كثيرًا وكان كأبيه تهطُل دموعهُ حينما يسمعُ آيات النّذير في القرآن، يقول عُبَيد بن عُمَير ؛ عُبَيْد تصغير، عُمَير تصغير، مرَّةً قال عمر عن نفسه: كنتُ عُمَير، فأصبحت عمر، فأصبحتُ أمير المؤمنين، إذا كان الإنسان كان صانعًا وأصبَح تاجرًا لا ينسى فضل الله عليه، وكان ساكنًا مع أهله ثمّ أخذ بيتًا، واسْتقلَّ فيه، هذا فضْل كبير، كان يتحكَّموا الناس فيه، وصار مستقلاًّ بِرأيِهِ هذا كذلك فضْل كبير، فالإنسان لا ينسى الماضي، والماضي يُعرِّفك بالحاضر.
يقول عُبَيد بن عُمَير: قرأتُ يومًا على عبد الله بن عمر هذه الآية:
﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42)﴾
[ سورة النساء ]
فجعل بن عمر يبكي حتى ندِيَتْ لحْيتُهُ من دموعه، امتلأَتْ.
وجلسَ يومًا بين إخوانه، فقرأ قوله تعالى:
﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)﴾
[ سورة المطففين ]
فمضى يقول: يوم يقوم الناس لِرَبِّ العالمين، ودموعهُ تسيل كالمطَر حتى وقع من كثْرة وَجْدِهِ وبُكائِهِ.
هذا الكلام ينقلنا إلى كلام، نحن في رمضان عندنا مقياس دقيق وهو أن يكون هذا القلب مفْعمًا بِحُبّ الله، أن تكون العَين مطَّالة، يكون هناك رقَّة وحبّ، وشَوْق إلى الله عز وجل، الإنسان من دون حبّ يعيش مُقْفر، من دون مشاعر راقيَة، المحبَّة لها سبب، ولها ثمن ثمنها طاعة الله عز وجل، والأعمال الصالحة، الطاعة والأعمال الصالحة والاستقامة، هذه تنَمِّي المحبَّة، وعالثَّمَرة تأخذها في الصلاة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( الصلاة ميزان فمن وفَّى اسْتَوفى))
سيّدنا بن عمر كان من ذوي الدخول الرَّغيدة، أنا اخْترْت ابن عمر من أجل موضوع قيام الليل، وموضوع الإنفاق، ونحن في رمضان قيام ليل وتراويح وإنفاق، والفضل لله عز وجل، يوميًّا مساءً هناك سرور بالغٌ جدًّا في قراءة جزء من القرآن الكريم، وبعد التراويح هناك عشرة دقائق نشرح فيها بعض الآيات، فالإنسان إذا كان برَمضان ما صلّى التراويح وقيام الليل، وما أمضى الوقت الطويل في طاعة الله، هل له من وقت يشعر بهذا ؟ فقال: كان ابن عمر كان من ذوي الدخول الرَّغيدة الحسَنَة كان تاجرًا أمينًا ناجحًا، وكان راتبهُ من بيت مال المسلمين وفير، ومع ذلك يحدِّثنا أيُّوب بن واحد الوائل الراسبي عن واحدةٍ من مكرماته فيُخْبرنا أنّ ابن عمر جاءه يومًا أربعة آلاف درهم، وقطيفة، وفي اليوم التالي رآهُ أيُّوب بن وائل في السوق يشتري لِراحلتِهِ علفًا نسيئةً بالدَّيْن، البارحة جاءه أربعة آلاف درهم وقطيفة وبعدها يشتري علفًا لِدابَّتِهِ نسيئةً، فذهب ابن وائل إلى أهل بيته وسألهم: أليْس قد أتى لعبد الله بن عمر بالأمس أربعة آلاف درهم وقطيفة ؟ فقالوا: بلى، قال: فإنِّي رأيته اليوم في السوق يشتري علفًا لراحِلَتِهِ، ولا يجدُ ثمنها ! قالوا: إنَّه لم يبِتْ بالأمس حتى فرَّقها جميعًا، ثمّ أخذ القطيفة على ظهره وخرج، وعاد وليْسَت معه فسألناه عنها، فقال: إنّه وهبها لفقير !! فخرج بن وائل يضرب كفًّا بِكَفّ حتى أتى السوق، فتوقَّل مكانًا عاليًا، وصاح في الناس، يا معشر التُّجار ما تصنعون بالدنيا، وهذا ابن عمر تأتيه آلاف الدراهم، فيُوَزِّعها ثمَّ يصبحُ، فيشتري علفًا لراحِلَتِهِ نسيئةً، هكذا كان يفعَل.
من شدّة حبِّه للنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا ركب ناقتهُ تقصَّد أن يسير في المكان الذي سار فيه النبي عليه الصلاة والسلام، وكان يقول: لعلَّ خُفًّا يقعُ على خفّ، هذا من شدَّة حبِّه للنبي عليه الصلاة والسلام.
له عادات طيِّبة جدًّا، كان يُطعمُ المحتاجين، والفقراء، وكان قلَّما يأكل طعامًا وحدهُ لا بدّ من أن يأكل معه أيتامٌ أو فقراء، وطالمَا كان يُعاتب بعض أبنائه حينما يولمون للأغنياء ولا يُطعمون الفقراء، ويقول لهم: تَدعون الشِّباع، وتَدَعون الجِياع ! هذا الطّعام يجب أن يأكله الفقراء.
أهداهُ أحدُ إخوانه ثوبًا ؛ حُلَّةً أنيقةً ناعمة فاخرة من خراسان، فقال: جئتك بهذا الثَّوب من خراسان، وإنَّه لتقرُّ عَينايَ به إذْ أراك تنزع عنك ثيابك الخشنة هذه، وترتدي هذا الثوب الجميل، فقال ابن عمر: أرِني إيَّاه ؟ ثمّ لمسهُ وقال: أحرير هذا ؟ فقال: لا هذا قطن وتملاَّه عبد الله قليلاً، ثمّ دفعهُ بيَمِينه وهو يقول: لا إنِّي أخاف على نفسي، أخاف أن يجعلني هذا الثّوبُ مختالاً فخورًا، والله لا يحبّ كلّ مختال فخور.
أهداه صديق مرَّةَ وعاءً مملوءً، سألهُ بن عمر: ما هذا ؟ فقال: هذا دواءٌ عظيم جئتُكَ به، فقال: وماذا يُطبِّب هذا الدَّواء ؟ قال: يهضم الطَّعام فابتسم ابن عمر وقال يهضم الطَّعام ! والله لم أشبع من طعام قطّ منذ أربعين عامًا، فالشِّبع من مخالفة السنّة، حتّى أنَّه وردَ في السنّة أنَّ أوَّل بدْعة ابتدعها المسلمون بعد وفاة رسول الله هي الشِّبَع، قال: والله لم أشبع من طعام قطّ منذ أربعين عامًا !
يروون أنّ الشيخ بدر الدّين الحسني رحمه الله كان يمشي هو أحد تلاميذه في الشام فكان هناك أناني كازوز، وكانت جديدة في البلدة، قال له: ما هذا يا ابني ؟ فقال: هذا كازوز من أجل ماذا ؟ فقال: إذا الواحد مثْقل يجعلك تهضم أحسن، فقال له: ولماذا يثقل الإنسان ؟! قال والله لم أشبع من طعام قطّ منذ أربعين عامًا !
قال: هذا الصحابي كان يخاف أن يُقال له يوم القيامة كما قال تعالى:
﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)﴾
[ سورة الأحقاف ]
سيّدنا عمر بن عبد العزيز يقرأ آيةً كلّ يوم، كان يقرأ قوله تعالى:
﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)
مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)﴾
[ سورة الشعراء ]
فكان سيّدنا بن عمر يخشى أن يُقال له: أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا واستمْتعتم بها، لذلك قال: والله ما وضعْتُ لبِنَةً على لبِنَة منذ توفِّيَ رسول الله.
ميمون بن مهران قال: دخلْت بيتَ بن عمر فقوَّمْتُ كلّ شيء في بيته، من فراشٍ ولِحام، وبساط، ومن كلّ شيء فيه، فما وجدتهُ يساوي مئة درهم كلّ هذا البيت، وكلّ ما عنده أما الآن يقول لك: الثريّة هذه ثمنها ثمانون ألفًا !! ويفتخر !! وهذه السجادة لا توجد بكلّ سوريَّة إذا جمَّعت وجدْت بيته يحوي الملايين، أما سيّدنا ابن عمر، كلّ بيته لا يوجد فيه ما يساوي مئة درهم.
سيّدنا ابن عمر عاشَ طويلاً، وعاش في وقت فيه رفاه، البلاد فُتِحَت وبلاد بني أميَّة كلّها خيرات، وطعام وشراب، وثياب، فكلَّما ذكِّر بِحُضوض الدنيا، وقيل له: خذ غير هذا البيت، ودابَّة أرقى من هذه ! قال: كلَّما ذكِّر بِحُضوض الدنيا ومتاعها يقول: لقد اجتمعْتُ وأصحابي على أمر، وإنِّي أخاف إن خالفْتهم أن لا ألْحقَ بهم.
ما كان أقلّ ذكاءً ممَّا يُزاحموه، له كلمة شهيرة، قال: اللَّهمّ غنَّك تعلمُ لولا مخافتُكَ لزاحمْنا قومنا قريشًا في هذه الدنيا ! آثرَ مرضات الله عز وجل فالمؤمن ليس خبًّا، ولا خبّ يخدعُهُ، ولكنَّه اختار اختيار جيِّد جدًّا، ما اختار الدنيا ولكن الآخرة.
فهذا الرجل أنا وجدتهُ مناسبًا لموضوع الإنفاق، والبذل، والزّهد، وقيام الليل وتلاوة القرآن، والتَّواضع، عاش تسعين سنة، وهنيئًا له، الذين تمتَّعوا في الدنيا ماتوا، قال تعالى:
﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)﴾
[ سورة غافر ]
مرَّة عملتُ حسابًا بسيطًا فقلتُ: سبعة آلاف سنة مرَّت على وفاة آل فرعون ضرب ثلاث مئة وخمسة وستِّين يومًا كلّ سنة، ضرب اثنان !! اللَّذة انقطعت وبقي العذاب والزهد والورع انتهى، وبقي الثواب والجنَّة، فالدنيا ساعة فاجعلها طاعة، والنَّفس طمَّاعة علِّمها القناعة.
أنت الآن ما دمتَ في حياة فأبواب التوبة مفتوحة، وأبواب الاستقامة، وكذا العمل الصالح، والرقيّ، وأبواب طلب العلم، وأبواب تعليم العلم، هذا كلّه مفتَّح.