عبق
الحنطة المشوية اصطادني ما إن دخلت إلى الزقاق المتعرج، وما لبثت الرائحة
الزكية أن قادتني إلى مخبز بيش بعمره البالغ 120 عاماً. المخبز والزقاق
يسافران بذاكرتي إلى الشرق ليصلاً بي إلى شوارع دمشق أو القاهرة أو بغداد.
في
27 شباط/ فبراير 1893 أنشأ هاينرش يوزوف بيش "مخبز بيش" في مدينة بون
ليبقى إرثاً منتجاً تتداوله العائلة من جيل إلى آخر. الفرن وأسرة بيش صمدا
أمام حربين كونيتين مدمرتين محورهما ألمانيا.
الفارق بين درجة الحرارة
داخل الفرن وبين الشارع الذي يكسوه الجليد منذ أسبوع كبير، لدرجة أن بيتر
بيش الأب البالغ من العمر 73 عاماً وأبنه رولف الذي يتولى إدارة العمل منذ
أكثر من عقد لا يرتديان سوى سروايل قصيرة وقمصان قطنية قصيرة الأكمام.
كل
شيء هنا يذكّر المرء بماض جميل لم تكن الآلة فيه تصادر الإبداع الفردي،
وأجمل ما فيه أن الخبز يُصنع هنا بالأصابع العارية. بعيداً عن الحنين الذي
يثيره المكان، لا يسع المرء إلا أن يستعيد بديهية مفادها أن جزءا مهماً من
الاقتصاد الألماني هو اقتصاد أسرة.
صورة للفرن في عام 1900يقول
بيتر وهو يبتسم "في عام 1940 ذهب أبي إلى الجيش فأغلقوا المخبز حتى نهاية
الحرب، ثم عاد أبي للعمل بعد عام 1949، كل شيء كان متوقفاً إلا صناعة الخبز
بقيت مستمرة، وفي عام 1966 توليت أنا إدارة العمل هنا، وفي عام 1999 سلّمت
كل شيء لأبني رولف وأحلت نفسي إلى المعاش".
"المرء لا يصبح بالخبازة ثرياً، لكنه لا يفقد عمله قط"
ضحكتُ
لقوله ونظرت مستغرباً إليه وهو منهمك في العمل متلفعاً بنقابه الأبيض
فسارع يقول: "ليس الأمر كما تظن، أنا هنا للمساعدة فقط، ولا أتقاضى أجراً
عن عملي، نحن قانعون بحياتناً، النقود ليست كل شيء، هذا المكان هو حياتي".
وسارع
يُخرج من جوف الفرن معجنات البودنغ الشهية ليصفّها على مشبّك خشبي ويحملها
على كتفه إلى واجهة الفرن حيث تتولى نسوة العائلة تسويق المنتجات، قائلاً
وهو يغادرنا: "المرء لا يصبح بالخبازة ثرياً، لكنه لا يفقد عمله قط، وهذا
سر نجاحنا هنا، في أقسى الظروف بعد الحرب كنا نعمل".
ومثلما تولى رولف
الابن مسؤولية العمل بعد أبيه، واصل بعد خروجه عنّا سرد قصة الخبز دون أن
تترك يداه العجينة السمراء التي توشك أن تدخل الفرن "بدأتُ الصنعة حين كان
عمري 16 عاماً، حيث دخلت مدرسة مهنية، ثم نلت الشهادة وبعدها شهادة المهارة
التي لا يجوز لأي صاحب عمل أن يمارسه دونها".
بيتر الأب يعشق عمله"الخبز البسيط غير الحلوى المطيّبة"
يفتخر
الألمان بتنوع الخبز في بلدهم، حتى أنه صار يُقال إن في ألمانيا 300 نوع
من الخبز، وحين سألت "الاسطة رولف" عن هذا العدد من أنواع الخبز، هز كتفه
قائلاً: "لا أعرف كم نوع من الخبز يُنتج في ألمانيا، لكننا نصنع هنا 10
أصناف من الخبز، بعضها ثابت كل يوم، فيما نصنع بعضها الآخر حسب الطلب
الموسمي".
وانتبه رولف إلى أني أراقب حركة أصابع العارية التي تقلّب
العجين، فأسرع يوضح الأمر مبيناً أنهم لا يعتمدون الوسائل الالكترونية في
عملهم، ويستخدمون النفط لتشغيل الفرن دون الاستعانة بالكهرباء، كما أنهم لا
يستخدمون أي مواد كيماوية أو عطور أو مطيبات في صناعة الخبز.
ورغم أن
المحل يعرض حلوى متنوعة إلى جانب الخبز العاري، فإن رولف يصرّ على ضرورة
التفريق بين المخبز وبين فرن الحلوى " نحن بالدرجة الأولى نصنع الخبز،
الخبز المنزلي البسيط، بعيداً عن المطيّبات والسكّر والبيض لكن هذا لا يعني
أننا لا نصنع الأشياء الأخرى عند الطلب".
وبافتخار واضح، تحدث رولف عن
خبزهم المنتج بالكامل يدوياً، مترفعاً عن مقارنته بخبز الأفران الكبيرة
الموجودة في الأسواق (سوبر ماركت) حيث يصنع كل شيء آلياً منذ البداية حتى
نضج الخبز وعرضه للزبائن.
الرجال يصنعون الخبز والنساء يبعنه
تقاليد
العمل الموروثة، وضعت نساء الأسرة في وظيفة بيع المنتجات، فيما اختص
الرجال بعملية الإنتاج وهي الأصعب. واجهة المخبز صغيرة مكتظة بالزبائن،
أخذتني الأم بيش إلى مطبخها في نفس المبنى الذي يضم المخبز والفرن والبيت.
قالت وعلت شفتيها ابتسامة: "نحن متزوجان منذ 50 عاماً، وعندنا رولف الذي
قابلته وابنتي ذات الشعر الأسود وهي ليست معنا الآن". لا تبدو الأم بيش في
الثانية والسبعين من العمر، وزاد عجبي حين أخبرتني أنها تمارس البيع كل يوم
منذ السابعة والنصف صباحاً حتى السابعة والنصف ليلاً، كما تقوم بالطبخ
وتنظيف البيت خلال هذا الوقت.
سرعان ما أعادتني السيدة بيش إلى واجهة
المخبز، حيث رصّت صنوف الحلوى والموالح الشهية على خوانات كبيرة، فيما وضع
الخبز داخل صناديق العرض الزجاجية .
تتولى البيع الآن كنّتهم بيترا التي
بادرتني بالسؤال: "هل يشبه خبزنا الخبز في بلادكم؟" أجبتها بالإيجاب
شارحاً طرق إعداد الخبز في البلاد العربية التي تحافظ في الغالب على
الأساليب القديمة التقليدية في صناعته.
" أسعارنا مناسبة لأن تكاليف الإنتاج قليلة"
انشغلت
بيترا عني بالكلام مع حماتها، ثم وفدت زبونة اشترت لابنها الصغير قطعة "
كرواسان"، وحين ذهبا سألت بيترا عن نوع الزبائن الذين يرتادون محلهم،
فقالت: "إنهم في الغالب ألمان، ولكن عندنا زبائن من الصين وزبائن عرب
وإيرانيين أيضاً، أما الأتراك فلا يزورنا منهم إلا بعض الشباب ممن ولدوا في
ألمانيا".
قاطع حديثنا توافدُ الزبائن على المحل، وحين خلى المكان
سألتها عن سبب انخفاض أسعار منتجاتهم مقارنة بالمخابز الأخرى، رغم أنهم
ينتجونها يدوياً، فقالت: "في محلنا الصغير، نصنع كل شيء بأيدينا، وعملنا
جماعي، كما أن التكاليف ليست عالية لأننا لا نستخدم إنارة وديكورات عرض
باذخة مثل المحلات الكبيرة، وهذا كله يخفض من الكلفة، ومن هنا فإن بوسعنا
أن نراعي زبائننا ولا نفرض أسعاراً عالية".
غادرتُ المحل الدافئ الغارق
في الألفة ورائحة القمح، حاملاً معي تفاصيل غير باردة عن زيارة شتوية
وصوراً تحكي قصة الخبز الذي تقول بعض الروايات إنه طعام أهل الجنّة.