الأخرس ..؟؟
لأنه الأخرس الوحيـد بالقرية، فإنه كان دائماً ما يُحـاط من أهلها، بنوع ما من الحب والشفقة، أو بـذلك الخليـط من المشاعر التي تتولـد لـدى الأصحاء حيال المعاقـين، ما أن يرونه في أي مكان يتصادف وجـوده فيه، حتى تنبتُ الابتسامات تلقائياً علي وجوههم، وتتحـفز لـديهم روح المداعبـة والمعابثـة والمشاغبة، انتظـاراً لـرد الفعـل لـديه، وكان هـو خليقاً بالنـديَّة، لـديه دائما مخزون هـائل من الـردود المناسبة، بالهمهمات والإشـارات والحركات التي تميتهم ضحكاً، وكان هـو أيضاً يضحك معهم بتسـامح ودود.
والحقيقة أن القـرية، كانت تفعل هـذا ـ باتفاق باطني غير معلن ـ حيال الأخرس والضرير والأعـرج والأقـرع والأحـدب والمخبول. وكل أصحاب العـاهات، بما يمثلونه من نـدرة في مجتمع صغـير يعرف بعضه البعض حـق المعـرفة.
لكن الأخـرس، ربما كان الوحيـد بين كل هـؤلاء، الذي لم يكن يرى في نفسـه أية إعـاقة، وربما كانت إعاقـة الخـرس هـي دافعه الأول للتفـوق على أقرانه من فلاَّحي القرية، كان فلاَّحاً ماهراً، فالأرض التي يزرعها بالإيجار، تعطي أجـود محصول وأعلى إنتاج، وكان هـذا ما يدفع بالحاسدين والخائبين، لأن يرددوا ـ بنوع من الغيرة ـ مقولـة: "صاحـب كل ذي عـاهة جبَّار".
ولأن دوام الحال من المحال، فإن الأخرس اصطـدم بأول عقبة في حياته، عنـدما أراد الزواج بفتـاة من فتيات القـرية، ورغم أنه لم يكـن يملك رفاهيـة الحق في الاختيار كالآخرين، فإنه رغبته في الزواج من أي فتـاة و"السـلام"، أُصيبتْ دائماً الفشـل، فـإذا وافقـتْ الفتـاة رفضتْ أسـرتها، وإذا وافقـتْ الأسـرة رفضتْ الفتـاة.
وهكذا تبـدَّل حـال الأخرس بتوالي مرَّات الفشل، فلقـد نمتْ لـديه مشاعر عدائية حيـال أهلـه ونـاس قريتـه، مؤمناً عـن يقين أنهم سبب آلامه وتعاسته وسوء حظَّـه، وآثـر الانـزواء والوحـدة، واختفـتْ البسمة من وجهه، وواجه الجميع ـ حتى الذين اعتـادوا مداعبتـه ـ بوجـه جامـد يخلـو من أي مشاعر إنسانية، ورغم مشاعر الحب والشفقة اللـذين ازدادا تبعـاً لتكرار ذلك الفشـل، إلاَّ أنهم لم يتمكنـوا من تقـديم يـد المساعـدة له.
وفي الوقت الذي اعتقـدوا فيـه أنه نسي الأمر، واستعـذب حياة العزوبية، وصرف النظـر عن فكـرة الزواج، فوجئـوا بعُـرسه وقـد تزوج بامرأة خرساء من قـرية أخرى، أقبلـوا عليه يهنـئونه بفـرح، بظن أنه قـد حلَّ مشكلته، وخرج من قوقـعة حـزنه، لكنـه ظـلَّ ـ رغم ذلك ـ يواجههـم بمشاعر حيـادية.
هل نسيتْ القـرية أخرسها بعـد ذلك؟ هـل تركـوه يحـيا حياته كما تحلو لـه؟ هـل خمَّـنوا أنه كـان يؤمل في إنجاب ولـد صحيح غير معـاق يواجههم به..؟؟
هل عرفـوا أنه أنجـب ولـداً أخـرس كذلك..؟؟
هـل وهـل وهـل..؟؟
أسئلة ظلَّت حائرة، لأن الـذي حـدث بالأمس، هـو الـذي أعـاد القرية للأخـرس وأعـاده إليها.
كان الطقس الشتوي بارداً، والغيـوم السـوداء تتزاحم في السماء متدافعـة، والأمطار التي هطلتْ مدراراً أوحلتْ الغيطان والطرق والشوارع وخلفتْ بركاً من الماء، وتخللتْ أسقف البوص والقش، وطالت الناس وأشياءهم داخل الـدور الطينية بالبـللْ، وانعقـدتْ فوق الـدور سحب دخان "الرواكي" و"المناقـد" والأفـران التي لا تهـدأ نيرانها للتـدفئة.
لكن العيـال الذين لا يأبهون لأي طقس كانوا يلعبون، يخوضون الماء ويدوسون الوحل ويجرون مشمرين ذيول جلابيبهم، وجـرَّار آل مرزوق الزراعي كان عـائداً عنـد كوبري الميزانية، عندما فوجئ بالعيـال أمامه، سمعوا زمجرة دواليبه فابتعـدوا بسرعة، لكن واحداً منهم لم يكـن بإمكانه السماع ولم ير أو يتحـرك، والفرملة الكابحة لم تجـدِ نفعاً مع الأرض الموحلة الزلقـة، وانزلق الجـرَّار ـ رغم أنف السائق ـ فوق الصبي فقتله.
عـلا الصراخ، وخرجت القرية عـن بكـرة أبيها ملهوفة، تشمر ذيـول جلابيبها، وتخوض الأوحال، بحثاً عن عيـالها المبعثرين بالساحات والأجران وشواطئ الترع والمصارف، وعند الميزانية عرفتْ القرية بنـوع من الدهشة أن الطفل القتيل أخرس، وأنه ابن الأخرس، الذي رأوه يبكي لأول مـرَّة بدموع حقيقية، كان يبكي بعنف ومرارة، من مخزون سنوات طوال حبـس فيها دموعه، أحـاطوا به مشفقين ومواسين، وكانت دموع زوجته لا تكف عن السقوط بصمت، وطارتْ من القرية إشارة لنقطـة الشـرطة الكائنـة بالقـرية المجاورة بالحـادثة.
أقبل الغروب سريعاً في يـوم الشتاء القصير، وحلّ ظلام الشتاء الحالك، وتطوع واحـدٌ وأحضر كومة قش من الجرن القريب، وغطَّى جثـة الطفـل، وكان السؤال الذي طـاف بعقـل القـرية مع بداية الليـل الطويل هـو: هـل يترك الضابط حجرته الدافئـة بالنقطـة، ويأتي في هـذا الـبرد القارس، لمعاينـة الحـادثة ثم يصرح بالدفـن ..؟؟
انزوى الأخرس وزوجته بجـوار حـائط كوبري المـيزانية، بالقـرب من جثـة طفلهما، انتظاراً للضابط، لم يكن يشغل بال الأخرس من شيء سوى مواراة جثة ابنـه التراب، وتسرب بعض الناس وعـادوا لـدورهم، وتقدَّم الليـل ببـرده القارس.
تطوع واحـدٌ آخـر وأحضر بطَّـانية قديمة، ألقـاها على أكتاف الأخرس وزوجته، ولم يأت الضـابط، وتسرب جمع آخـر.
وأحضر واحـدٌ ثالث أفـرعاً نباتيـة طال بعضها البـلل من الجـرن، كومها بالقرب منهما، وأشعل عـود ثقاب يُشعل لهما ناراً تُدفئهما، كانت النـار ترعى بالأعواد المبتلة ببـطء شـديد، وتدفع بدخَّانها الكثيف الذي يدمع العيون، والرجل يذكِّيها بدفع الهواء فيها من فمه مرَّة أو بفضلة جلبابه مرَّة أخرى، فتترقص ألسنتها الصغيرة الزرقاء في الهواء، وظلَّتْ جمراتُها متوهجةً لبعض الوقت قبل أن تخمـد، ولم يـأت الضـابط.
وجـاء واحـدٌ رابع بمصباح من الصفيح لـه فتـيل مشتعل يهـتز بفعل الهواء، ووضعه بالقرب منهما بجـوار الحـائط حتى لا تنطفئ شعلته، وتسرب القليـلون الباقـون، والليـل يتقـدَّم وتـزداد برودته، ولم يأت الضـابط.
نهض الأخـرس وحمل المصباح، ودارى شعلته بكفِّه، ووضعه بجـوار جثَّـة الطفـل، كأن الطفلَ نائـمٌ هناك تحت كومة القش المبتلة، وكأنه أراد أن يؤنسـه في وحشة اللـيل الطويل وظلمته الحالكة، ثم عـاد لموضعه بجوار زوجته يقرفص ململماً أعضاءه، ضاماً ساعـديه فوق ساقيـه، مريحاً ذقنـه عليهما، وراح يرقـب الهواء البـارد وهو يأخـذ بخناق المصباح، كأنه يأخـذ بخنـاقه، ويسحب شعلته في طريقـه، فيسحب روحه معها، ويكـاد يهـب بالنهوض من جلسـته، ليحميها بكفِّـه قبـل أن تنطـفئ، لكنها كانت تقاوم باستمـاتة للبـقاء.
مضى الليـل وجـاء الصباح، ونهضتْ القرية من نومها، وفركتْ أجفانها، تذكرت مأساة الأخرس، تذكرتْ أنها تركته وزوجته وحيـدين مع ابنهما الصريع، علي قارعة الطريق عنـد كوبري الميزانية.
خرجتْ القـرية بكل ناسها لكوبري الميزانية تستطلـع الأمـر. عندما وصلوا إليـه، لم يجـدوا أحـداً هناك، لا الأخـرس ولا زوجتـه ولا جثَّـة الطفـل الصريع.
فقـط، كانت هناك كـومة قـش مبللـة، وبقعـة دماء متخثرة مختلطة بالوحـل، ومصباح مطـفأ من الصفـيح، ورمـاد نـار بللتـه قطـرات المطـر. وبحثتْ القـرية عن أخرسـها في كـل مكان، ولم تجـده!