ويندرج في هذا القسم أولئك الذين يحيون ليلهم في التكسب، في تجاراتهم، وفي صناعاتهم وفي دكاكينهم؛ وهؤلاء قد ربحوا نوعاً من الربح، وهو ربح عابر؛ ربح دنيوي، لكنه قد يكون عند بعضهم أنفس وأغلى ثمناً مما حصل عليه أهل المساجد، وأهل القراءات، وأهل العلم! ولكنهم في الحقيقة قد خسروا أكثر مما ربحوا، فترى أحدهم يبيت ليله كله في مصنعه، أو في متجره أو حرفته، أو نحو ذلك. فهذا قد أسهر نفسه، وأحيى ليله، ولكن في طلب الدنيا الدنيئة!
فإذا كان ممن رغب عن الأعمال الأخروية، وزهد فيها، وأقبل على الدنيا بكليته، وانصرف إليها ولم يعمل لآخرته، خيف عليه أن يكون ممن قال الله تعالى في حقهم: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفِّ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون} [سورة هود:15-16].
وهذه الآية فيمن جعل دنياه أكبر همه، ونسي أو تناسى الآخرة، ولم يعمل لها، وكان مقصده وديدنه السعي وراء هذا الحطام؛ بل جعلها هي مقصده، لا يعمل ولا يسعى ولا يكدح إلا لها، حتى كأنها معبوده، فيصدق عليه أنه عابد لدنياه، وأنه عابد لدرهمه وديناره، ويتحقق عليه التعس، ويدعى عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: تعس عبدالدينار والدرهم والقطيفة.
ولكن بعضهم قد يحصل على جزء من الصلاة والقراءة ولا يكون غافلاً عن ربه ولا متغافلاً عن الذكر، ولا منشغلاً عن القراءة، فيستصحب معه -مثلاً- كتاب الله يقرأ فيه في أوقات فراغه، ويذكر ربه في أوقات فراغه، ويصلي ما قدر له، ويأتي بورد صغير معه. وهذا قد ربح نوعاً من الربح، وإن لم يكن الربح الأكمل، فهذا على طرف، لكن فاته الخير الكثير.