ليس يشعر بهذه الحياة إلا من أدمن تلاوة القرآن، مع بعض من التأمل والتفكر والتدبر، ثم حاول استكشاف الحياة به ومنه وفيه، بحسب ما اقترب العبد من قراءة كتاب الله بعين من يريد أن يفهم لكي يهتدي بحسب ما فتح الله عليه من نور الهدايات..
ولذلك يخطئ كثير من الإسلاميين إذا لم يكن لهم ورد يومي من القرآن الكريم، لأن الحياة التي تغشاه ويغشاها تمتلئ بمواقف الالتباس، وقد قال الله أنه جعل هذا الكتاب {تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} [النحل: 89]
وبقدر ما في الكون من عجائب تثير الدهشة من بديع صنعتها ولطائف دقتها، فإن في القرآن مثل ذلك، فلقد صدرا عن إله واحد، وبحسب ما أخلص العبد في القراءة والفهم والعمل بحسب ما أعطاه الله من فيضه العميم!
تعترف النخب العلمانية في بلادنا الإسلامية بإيمانها الكامل بالإسلام: إيمان بالله واليوم الآخر والقرآن والرسالات، وبأن الإسلام دين عظيم طاهر مقدس.. ولا يجد الرجل الذي يعلن نفسه علمانيا حرجا في أن يزايد على إيمان الناس، فهو مسلم مثلهم، بل أحسن منهم..
على أنه حين يتحدث في التفاصيل يكشف عن إيمان لا كإيمان الناس، ويخبرنا عن إسلام لا نعرف من أين استقاه، ويتحفنا باستنباطات لم يأت بها الأولون من الصحابة والتابعين وأجيال الفقهاء والمحدثين والمفسرين..
ولا بأس عنده أن يرمي هؤلاء عن قوس واحدة، فلئن احترمهم فإنه يراهم رجال، ونحن رجال، وإن لم يحترمهم كثر في حديثه ضرورة تجاوز هذه الكتب الصفراء التي تحمل هذا التراث المتخلف الذي كان سبب مصائبنا وبلايانا!
ومن كان هذا حاله مع جهابذة الأمة فإننا لا نتوقع أن يرى بقية الأمة إلا مجموعة من السفهاء التي لا تفهم الدين حق الفهم، ولا تؤمن حق الإيمان، إنما هي العقول المظلمة، والقلوب القاسية والوجوه العابسة.. وهؤلاء السفهاء إنما جاءتهم الأفكار من بلاد الصحراء حيث الجهل والغلظة والبداوة، ثم وجدت تربة خصبة لها في القرى والأرياف حيث الجهل والفقر والسذاجة!
وإذا وجهت لهم اتهامات بما بذروه في الأمة من فساد وإفساد، قالوا: إنما هذا تنوير! وتحضر! وتقدم! و.... و.... إلخ.
وقد يقال: ربما كانوا صادقين؟ وما أدراك بالنوايا؟
حسنا، كنا سنحسن الظن بهم لو لم نرهم يكذبون، وهذه هي العلامة التي ذكرها القرآن في أكثر من موضع لبيان الفارق بين نوعين المغضوب عليهم والضالين، فالأولون يعرفون الحق ويجحدونه، وأما الآخرين فيحسبون أنهم على الحق.
اندفعت كل هذه الخواطر إلى الذهن، عن غير ترتيب ولا قصد، حين كنت اقرأ هذه الآيات.. فأرجو أن تقرأها بعين متأملة:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}.
فقط عند قوله تعالى: {قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء} انتبه الذهن إلى هذه اللهجة النخبوية، لا شك لأنها تُسمع كثيرا هذه الأيام، فعادت العين إلى قراءة الآيات من أولها..
إنها آيات فاضحة، تدخل إلى النفوس وتكشف ما في الخبايا، وتنبه المؤمنين إلى مجالس مغلقة يخلو فيها بعضهم إلى بعض ليسود فيها حديث التبرؤ مما يقال في العلن، وحديث الاستهزاء بأهل الدين وبالدين نفسه كذلك.
على أن المدهش في الأمر أن تكون هذه الفئة هي أول فئة يُحذر منها الله في القرآن؟ إننا في الآية الثامنة من سورة البقرة، أي في أول القرآن، وقد جاء الحديث عنهم قبل التحذير من الشيطان ومن اليهود!!
يبدو الجزء الأول من سورة البقرة، وكأنما موضوعه هو أعداء الإسلام، ففيه التحذير من هؤلاء، وبعده التحذير من الشيطان من خلال سرد قصته مع آدم وبيان سبب العداوة الأصيل القديم، ثم قصة طويلة حتى آخر الجزء عن بني إسرائيل وتاريخهم وتجاربهم مع الأنبياء وحسدهم لهذه الأمة وهذا الرسول.. وما يكاد ينتهي الجزء الأول إلا وقد اتضحت في الذهن المسلم خريطة أعدائه في هذه الحياة.
إن وجودهم في أول جزء يكون هذا موضوعه، أمر فاجأني في الحقيقة على رغم حفظي لسورة البقرة منذ الصغر، ويحن ألقى الله في روعي هذا الخاطر بدا وكأنما فُتِح في عقلي فيض نور لفهم الواقع المعاصر، ولترتيب الأولويات.. وأيضا: للبشرى في قوله تعالى: {فما ربحت تجارتهم}!
وهنا تذكرت سيلا من النخبة القديمة التي نسيها الزمان وجافاها الدهر، ولولا أن رواد الصحوة الإسلامية ذكروهم في كتبهم في معرض الرد عليهم لما كان أحد قد عرفهم، وذلك من قبيل قول الله تعالى: {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}. فحتى تلاميذهم من النخبة الحديثة ليسوا سوى أبناء سوء يعقون آباءهم ومنهم من يسرق أفكارهم وينسبها إلى نفسه!!
لقد خفتت أسماء سلامة موسى وأحمد لطفي السيد ولويس عوض، وهؤلاء كانوا نجوم عصرهم في الصحافة والثقافة، وكان لهم جمهور وعبيد يتلقفون كل حرف بآيات الإجلال والتعظيم!
وهناك من ذهبت أسماؤهم بالكلية، فمن في هذا العصر يتذكر مثلا: محمد زكي عبد القادر، ومحمد الأسمر، ومحمود عزت موسى، ومحمد أمين حسونة، وزكريا عبده، ومعاوية محمد نور؟؟ وهؤلاء هم أعضاء جماعة دعت إلى تكوين أدب مصري مستقل عن الآداب الشرقية ولا يرتبط بها حتى في اللغة العربية التي رأوها تعجز عن أن تعبر عن خواطر المصريين؟!! وذلك تأسيا بما فعله الأوروبيين من تحطيم اللغة اللاتينية لحساب لغات محلية! ومن يتذكر الآن عبد العزيز فهمي الذي اقترح أن تكتب اللغة العربية بالحروف اللاتينية؟
من يتذكر الآن شبلي شميل وإسماعيل مظهر وغالي شكري وطابورا طويلا اعتمدت عليه جحافل الاحتلال ثم مؤسسات الاستبداد لترسيخ نفوذها وسطوتها، بل إن ثمة من خفت ذكره وهو معاصر، بل إن بعضهم ذهبت أسماؤهم وهم ما زالوا في عداد الأحياء مثل سعيد العشماوي ولا أدل على هذا المثال من حسين أحمد أمين الذي كان نجم النخبة العلمانية في الصحافة والإعلام في الثمانينات أيام مواجهة الدولة للإسلاميين، وقد اعترف في مذكراته بأن رؤية المستشار طارق البشري قد تحققت حين قال له: ستستخدمك الدولة في محاربة الإسلاميين ثم لنفاقها فإن لم تستجب تركوك كمًّا مهملا!
إن المعركة التي تخوضها النخبة العلمانية تنتقل من خسارة إلى خسارة، يتبين هذا بوضوح إذا تتبعت تاريخ هذه النخبة منذ بداية القرن العشرين وحتى الآن، كانت أجواء البدايات في غاية السواد، لقد كانت ثوابت المجتمع كله تنتهك بكل فجور، ولم يكن يرى الكاتب بأسا في أن يسلخ مصر من انتمائها العربي الإسلامي، وكان يُراد حتى تغيير اللغة العربية، ثم تطور الحال في الستينات والسبعينات والثمانينات، وهي التي خفت فيها الهجوم على الإسلام والعروبة ليناور ويراوغ ليصب الهجوم على الإسلاميين باعتبارهم المتشددين المتطرفين الرجعيين الظلاميين، وفي ثنايا الهجوم على الأشخاص تهاجم القيم الدينية نفسها ولكن باعتبارها فهما غير صحيح للإسلام، وأما في التسعينات وبداية القرن الحادي والعشرين فقد صارت النخبة تتحرس جيدا من الهجوم، فهي حتى إن هاجمت الإسلاميين أعلنت في البداية والختام احترامها للإسلام ولانتماء مصر الإسلامي، وحاولوا إظهار الصراع وكأنه ترتيب أولويات بين الانتماء الوطني والانتماء الإسلامي.. إلا أن زلات اللسان وفلتات الأقلام تفضح مكنونات الصدور.
ويبدو هذا التطور واضحا في قراءة تراث الأعلام الذين أخذوا على عاتقهم لواء المواجهة منذ بداية القرن العشرين، والمتابع لتطور كتابات: محمد عبده ومحمد رشيد رضا ومحمود شاكر وسيد قطب ومحمد محمد حسين وأنور الجندي وجلال كشك وعبد الودود شلبي ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي وفهمي هويدي ومحمد عمارة وغيرهم يعرف جيدا أن أزمة النخبة مع الحالة الإسلامية تسير إلى المنحدر، لكنهم لا يرجعون! فما أشبه هذا بقول الله عز وجل عقب الآيات السابقة: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}.
لا يرجعون رغم المسار المتدهور المنحدر، تغرهم فترات البزوغ العابرة التي يستفيقون فيها مثل هوجة الشيوعية في الستينات أو مواجهة العنف المسلح في الثمانينات أو الحملة الأمريكية على الإسلام في بداية هذا القرن.. هذه البزوغات- ويا للعجب- ما أشبهها بقول الله عز وجل: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.