وقفة للتواصي..
معَ إشراقةِ العام الجديد.. وعبرَ الكلمة المؤمنة الهادفة، والفكرة التي يُراد لها بعونه سبحانه أن تساعد على البناء وتوضح الرؤية، نود أن نراجع مع الإخوة والأخوات رصيدَ الكلمة المؤمنة في كِيان هذه الأمة..
لنقف وقفة التواصي... لنتبين مواقع أقدامنا من الطريق الطويل الذي يُفترض أن يكون دائمًا على هدي من ميراث النبوة، مما أكرم الله به أمتنا المحمدية، وأرسى بهداه قواعدَ خيرتها في العالمين..
علَّ هذه الوقفة تكون سببًا في تحريك الهمم واستنهاض العزائم للتمسك الجاد بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مصدرِ العزة والقوة والتوفيق في الدارين، والخير والسعادة في الحياتين.......
وعلَّها تكون محركًا فاعلًا لمراجعة الذات، وتدقيق الحسابات، وتحديد الرؤى والمواقف، وتقويم المسيرة لتستعيد الأمة تاريخها المجيد ومجدها التليد، وما امتازت به من عالمية فريدة، وحضارة عريقة، بوأتها الطليعةَ بين أمم الأرض قاطبة، والإنسانية جمعاء.
وقفة للتواصي..
وحتى نكون- كما أراد لنا رسول الله- استمرارًا للقافلة الخيّرة التي تحمل عبءَ الدعوة بكل شُعَبِها قولًا وعملًا وسلوكًا... بالبيان.. بالكلمة.. بحسن الأسوة عملًا بقول الله تبارك وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]، وإذا سرنا مع الجمهور القائل بأن (مِن) هنا بيانية؛ فمعنى ذلك أن القيام بشان الدعوة واجب على هذه الأمة بمجموعها وجوبًا كفائيا؛ إذا لم تقم به كان كلُّ فرد منها آثمًا مقصرًا في الاستجابة لكلمة الله.. كما أنَّ فرضَ عين على الأمة أن يكون منها طائفةٌ مخصصة للقيام بشؤون هذه الدعوة...
إن الرسول عليه الصلاة والسلام قام بأمر الدعوة بالكلمة والعمل... وفتح لها مغاليقَ النفوس بالسلوك وحسن الأسوة.. ومكن لها في الأرض بالجهاد في سبيل الله... ولم يقف عند هذا الحد.. فسيرتُه عليه الصلاة والسلام بين ظهراني الناس دعوةٌ عملية واضحة المعالم مشرقة الأفاق... بدءًا من عهده بالرسالة وما قبل ذلك... ومرورًا بحياة حافلة بالعمل والصبر والمصابرة وممارسة الحياة بشتى ألوانها الاجتماعية والسياسية، وهجرته صلى الله عليه وسلم، وانتهاءً بإرساء القواعد التي تكفُل لهذه الأمة- لو التزمت بها وعملت بمقتضاها- سعادةَ الدنيا والآخرة وقيادةَ العالمين.. إذ تملك ما به تنقذ البشرية من وَهْدةٍ لا يعلم آمادَها إلا الله.
ولذا فإن ذكرى الهجرة تكون تحفيزا لمتابعة الطريق..
لعلَّ من أهم القضايا الجديرة بالتواصي على صعيد البناء الفكري ضرورةَ الرؤية عند المسلم، كما يجب أن نستبين أبعادَ الأمور في هذا العصر الذي اختلطت فيه المفاهيمُ والتبس الفكرُ المطروح بالمصالح القريبة أو البعيدة لأصحابه، وانتشرت على أرض الواقع عناوينُ دعية النسب لما تحتها من مضمونات، وأخذت كثيرٌ من المضمونات عناوينَ بعيدةً عن مدلولها ومحتواها؛ ومن يدري!! آلمصادفةُ جعلتها كذلك، أم أن ذلك قد كان لحاجة في النفس تُوجِّه الفكرة والأسلوب.. دعاوى يجفوها الواقعُ، وأوهام تلبس لبوس الحقائق، ودنيا تموج بذلك كله.. والليالي مُثقَلات.. مثقلاتٌ يلِدْن كلَّ جديد.
وإذا كان الأمرُ كذلك فإن وضوحَ الرؤية يجعل المسلم على بينة من أمره فيما يتعلق بالفكر الإسلامي نفسه، معرفةً بحدوده وأبعاده، وإدراكا لأصوله ومنطلقاته، وعوامل التأثر والتأثير وما يترتب على ذلك، كما يقف على الحقيقة فيما يتعلق بالأفكار الأخرى، وما يكون هنالك من التقاء أو افتراق أو اختلاف في بعض النقاط... وإنما يتم ذلك حين يكون الانطلاقُ من قواعد فكرنا ومفهوماته، ثم تبيُّن ما عداه من خلال مدلولاته ومؤشراته، لأنه فكر متميز يرتبط بعقيدة لا بد أن تكون بما ينبثق عنها من نظم هي الموجه لمساره اليوم كما كانت في الماضي وحين نستهدي بهذا المحور من الحركة الفكرية تكون أقرب إلى الدقة دائما في إعطاء القيم للواقع في الأعمال، والأشخاص الذين يمارسون تلك الأعمال، وفي الحوادث التي تظهر في دنيا عالمنا الكبير.
وهذا كله يتنافى مع الذي يبتغيه العدو الذي يقف لنا بالمرصاد، وإذًا.. فلا بد من إصاخة السمع إلى خطاب القرآن وهدي النبي الكريم بقلوب مفتحة وبصائر مستنيرة، وإلا أدركتنا الطامةُ وهزأت بنا قافلة التاريخ.
ذلك أن الإسلام بربانيته- كما أوحى الله به إلى نبيه محمد عليه الصلاة والسلام- فيه كلُّ عوامل الخير، ومقومات الاستمرار والعطاء، وما تلك النكَسات التي أصابت وتصيب العالمَ المُعرضَ عن الله في القديم والحديث، إلا بعض الشواهد على أن هذا الدين هو الهدية الربانية التي كانت من رحمة الله بالإنسان، وأن الرسالة المحمدية، هي المثابة التي لا غنى عنها للإنسانية عن الفيئة إليها بعد متاهات الضياع وظلام النكسات.
وإذا كان الأمرُ كذلك؛ فمن أولى بهذه الأمة من يقظة جديدة تصلها بحبل تلك الرسالة المتين، ولقد يكون لزامًا بدل أن تندب حظها العاثر، في عتب مرير على الأقدار، أن تتبين موقعَها من هذا الإسلام، وأن تنظر فيما منحها الله من ثروات معنوية ومادية، وما مكن لها من أسباب القوة والمنعة، فتضع ذلك على طريق التغيير المنهجي، والتخطيط المدروس في حياتها من أجل تحقيق الهدف الكبير، في بناء مجتمع تظلله هداية محمد عليه الصلاة والسلام.
ثم أين هي من سمات القوافل الخيِّرة التي عبَّدت سُبل الفلاح، ومن الصفات التي يتميز بها طلابُ الآخرة في كل ما يأتون وما يدعون، بل أين هي في سلوكها من مدلول العبودية الذي يشمل- مع التوجه إلى الله بالعبادة وإقامة الشعائر- اعتقادَ أن الحاكمية له سبحانه، والعمل على أن يكون ذلك واقع الحياة.
ولقد يكون من صواب القول والعمل، أن يذكر الروادُ دائمًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ترك هذه الأمة على بيضاء نقية ليلها كنهارها، لا يزيغُ عنها إلا هالك، والمتقلب في غمار الحياة بين طريقين: فإما أن يكون من طلاب الدنيا، الذين همهم التطواف حولها، ونشدان مطالبها...
وإما أن يكون من أبناء الآخرة المسارعين إلى مرضاة الله، السالكين صراطه السوي، لا يرضون به بديلا، ولا يبغون عنه حولا، فهم يتحركون ونصب أعينهم قولُ الله جلت حكمته: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا، وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 18].
ولتجدن هؤلاء البررة يغدون ويروحون- في طلب الآخرة- وهم في ساحة من الإيجابية والبناء والتفتح على كل ما هو خيّر ونافع، وتراهم يقطعون أشواطَ الرحلة إلى الله واثقين راضين بأمره، مطمئنةً قلوبُهم بذكره يحملون صفات البشر، ويظللهم طهرُ الملائكة، وهم.. هم وحدهم الذين يصدقُ فيهم أنهم أملُ الأمة المرتجى، وعدتها يوم يعزم الأمر ويجدُّ الجد {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13].
إنهم يتجاوزون مرمى الغاية عند أهل الدنيا، وينظرون ببصائرهم إلى حيث منازل السابقين وأهل اليمين يوم ينادى أصحاب الجنة: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]، {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 24].
وقفة مع حصيلة العام الماضي...
مع بداية العام الجديد يحق لنا أن نسلط الأضواء على العام المنصرم... وأن نتساءل: ما مقدار ما أحرزته البشرية خلال عام بأكمله؟
وإذا كان بعضُ الناس يقيسون التقدم الإنساني بما حققته التكنولوجيا الحديثةُ من رفاهية للإنسان؛ إذ أوجدت له الكثيرَ من الآلات التي تساعده على حل مشاكله، أو بعدد المصانع والمنشآت التي شيدت، أو بعدد السفن الفضائية التي أطلقت باتجاه القمر والمريخ، فإن التقدم كما نفهمه نحن.. هو ذلك الكفاح المرير الذي يتيح لنا في النهاية أن نفهم أنفسنا، ونعي جيدًا ما تعنيه هذه الكلمة (نحن البشر) والتقدم كما نريده أيضًا أن تحقق العدالة الإنسانية في جميع أنحاء المعمورة، وأن تستيقظ الضمائر من سباتها العميق، ويقل عددُ الحروب والوحوش البشرية التي تدمن شرب الدماء...
إن التقدم الذي نطمح في الوصول إليه لا يتحقق عن طريق اقتناء السيارات الفخمة، والإقامة في القصور وناطحات السحاب، وارتداء أحدث (الموضات)، واقتناء احدث الجوالات والأجهزة الإلكترونية، وهو أيضًا لا يتحقق عن طريق إقامة الحفلات والمآدب وإصدار التصريحات والبيانات ورفع الشعارات، ولكنه يأتي عن طريق السعي المتواصل لاقتلاع جذور النفاق من حياتنا، وتدمير كل ما يعوق نمونا الروحي، وأن نتخلص من عبودية التقاليد.. والبدع.. والمظاهر البالية، إننا نؤمن بالتقدم الذي يشق طريقه إلى قلب الشجاعة لمجابهة عيوبنا ونقاط ضعفنا ومعالجتها، وأن نستأصل من قلوبنا الحقد والكراهية، يجب أن نكافح ضد أنفسنا.. ضد وساوس الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، حتى يصبح ذلك الإنسان الذي يعرف جيدًا كيف يعيش فلا يكون عبدًا إلا لله، ولن يكون ذلك إلا بالعودة إلى النبع الأصيل.. نبع الإسلام الصافي في عقيدته وشريعته وأخلاقه..
وقفة مع القراء الكرام...
إن جانبًا من رسالة هذا الموقع المبارك يهدف إلى إيقاظ الهمم، ووضع الأمور في نصابها وفتح الأعين على الإسلام كما هو، وكما أراده الله للإنسانية عقيدةً ومنهجَ حياة، ورفع به أمتنا إلى مقام الريادة قرونًا متطاولة من الزمان، وهو قادر على ذلك دائمًا إن هي واصلت طريقها من جديد.
ومن هنا تأتي ضرورة وقفات التواصي التي تمثل مراجعة الرصيد لما مضى، ورسم المنهج لما يأتي، والحكم على الواقع من خلال التصوير السليم، لمنطلقات الأحداث وأبعادها، وذلك مما يفرض مزيدًا من التخطيط والعمل والبناء- وتلك سمات أصحاب الرسالة- خصوصًا والوقائع الصارخة تغمر العالم الإسلامي، وأعداء هذه الأمة لها بالمرصاد، مما يحفر في تاريخنا ندوبًا، وصورًا ينبغي أن نكون لها بالحسبان.
فالله المسئول أن يجعله أقدر على أداء رسالته بأمانة ووعي، وأن يثبتنا جميعا على النهج السوي لا نساوم ولا نحيد.. وهو جل جلاله المستعان على كل حال؛ وجزى الله خير جزائه إخواننا وأخواتنا الكتَّاب والعاملين في حقل الدعوة، وكلَّ من يساعد على أن تأخذ صفحاته المباركة- إن شاء الله- طريقها إلى النور...
ولنا من وعي القراء وسلامة تقديرهم لكل الأبعاد، ووضع ظروفها في الحسبان، وتعاونهم المعنوي... ما يحفزنا على المزيد من تفاؤل المؤمن الواثق بنصر الله وتأييده مهما طالت الطريق، واشتدت حلكة الليل...
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..
فما هذا الاجهد مقل ولاندعي فيه الكمال ولكن عذرنا انا بذلنا فيه قصارى جهدنا فان اصبنا فذاك مرادنا وان أخطئنا فلنا شرف المحاوله والتعلم