كثيرًا ما يَقَع الإنسانُ فريسةَ أفكارٍ مُنحَلَّةٍ، أو ضحيَّة تأثيرِ سلوكٍ شائن، وانحراف مهِين، فيُمارس الانحرافَ الفِكري أو السُّلوكي، وقدْ يَطول به الزمنُ فيصير ذلك صِفةً لازمة مِن صفاته، وشيمةً من شِيَمه، وبَعدَها يعتاد ذلك الفعلَ ويظنُّ أنَّه مِن الصعوبةِ التخلِّي عنه، وتمرُّ الشهور والسِّنون وهو قابعٌ في كهوفِ المعصية، سالكًا سراديبَها، ومُذْعنًا لطقوسها، ثم يمرُّ في مرحلة تُشرِق فيها نفسُه بالأمل، فيُمنِّي النفسَ بالترك والإقلاع، فيُبدِّد ذلك الأملَ شعورُه بالإدمان وخضوعُه لنفسه، فتُسوِّل له نفسُه أنَّ الإقلاعَ والترك والتوبةَ أمرٌ صعبُ المنال؛ فيستمر في غيِّهِ وانحرافه، وتمرُّ عليه السِّنون وهو على ذلك الحال.
وهجرةُ الصحابة رضي الله عنهم كانتْ بمنزلةِ تخلِّي الكثيرِ منهم عن مألوفاتِهم من طعامٍ وشراب، بل ووطن وأحباب، فتركوا المألوف، وغيَّروا المرغوب، وأقلعوا عن العوائد، واستطاعوا بالإيمانِ العميقِ والإرادةِ القوية أنْ يَنتصِروا على أنفسِهم، وأن يَتحرَّروا مِن وبالِ معاصيهم وانحرافِهم.
ترَك أبو سلمة- رضي الله عنه- زوجتَه أمَّ سلمةَ وطِفلَه في مكَّةَ بعدَ عودتهما من الحبَشة، و توجَّه إلى المدينة فارًّا بدينِه وعقيدتِه، مُخلِّفا وراءَه شريكةَ حياته وزرْع فؤادِه؛ فالدِّين أغلى منهما، والعقيدةُ أسمى ما يُضحِّي المرءُ لأجْله، وصبَرتْ زوجتُه أمُّ سَلَمةَ على جَور أهلها، والبُعد عن طفلها وزوجها، وثبتتْ على الإيمانِ، حتى لَحِقَتْ به بعدَ أن أعادتْ قبيلتُه الطفلَ إليها.
تَرَك مصعبُ بنُ عُمَير ما أَلِفه مِن الأموالِ والعطور والنحور؛ ليعيشَ على أرضِ يَثربَ بعيدًا عن نعيمِ مكَّة، فقدْ كان يعيش في أُسرةٍ مُترفَة، ألِف نعيمها، واعتادَ زَخرفتَها، فلباسُه مِن نوعٍ خاصٍّ، وطعامه مِن نوعٍ خاصٍّ، وبُخوره يُستورَد من جنوبِ الجزيرة، عاش ذلك النعيمَ وأَلِفه، وأصبح جزءًا أساسيًّا مِن حياته، فصار لا يَحلو له مفارقتُها ولا البُعد عنها قِيدَ أُنْمُلَة.
فلمَّا جاءتِ الدعوةُ الإسلاميَّة، ولبِس لباسَ التقوى، وامتلك الإيمانُ شغافَ قلبِه، واستولى على رُوحه ووجدانه، وتذوَّق معانيَه، حينها لم يعُدْ يطيب له البقاءُ حتى في كنَفِ أمِّه التي أغدقَتْ عليه ألوانًا مِن النعيم، ولا في بيتِه الفاخِرِ الذي يفوق بيوتَ بعضِ أهل مكَّةَ، ولا في رُبوعِ مكَّةَ التي عرَفه القاصي والداني فيها بنشأتِه الغنيَّة والمُترَفَة.
فحَلاَ له وطاب، أن يطرُق بابَ التوَّاب، ويُقلع عمَّا اعتادتْه نفسه مِن النعيم الحلال، وملذَّات الحرام، ويُهاجِر إلى الله بقلبِه وقالَبه، وإلى رسوله باتِّباعه وصُحبته وقُربه، فما لَبِثَ أنْ ترَك الأمَّ الحنونَ، والعيش الهنيء، وتوجَّه ليلحقَ بركبِ المهاجرين إلى المدينة، زاهدًا ومقلعًا عن كلِّ نعيمٍ ألِفه، فهَجَر وطنَه، وكانت هجرته تلك ثمرةً مِن ثمرات هَجْرِ المألوف الفاني واستبدال ما هو أبقى به، فتحرَّر مِن استبداد النَّفْس، واستوطن الإيمانُ قلْبَه، واعتاد لوازمَه وألِفها، فلذَّ له البُعدُ عن كلِّ نعيمٍ في دُنياه.
ويأتي يومُ أُحُد فينال ما تمنَّى مِن الشهادة في سبيلِ الله، ولم يُوفِّرْ لنفسه حتى ما يُغطَّى به جسدُه، فيأتي الأصحابُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يُخبِرونه عن حالِ جُثَّةِ مُصعب، فلم يَجِدوا ما يغطُّون به جِسمَه، فيأمرهم بوضعِ الإذْخِر على بَقيَّةِ جسدِه!
وغيرُه كثيرٌ ممَّن ضحَّوا بأموالِهم ووطنِهم لأجْلِ دِينهم، فكانوا- رضي الله عنهم- أُنموذجًا حيًّا لِمَن عزَم على هجرِ الحرام مِن الأقوالِ والأفعالِ والأحوال، بل والملذَّات والعادات التي اعتادُوا عليها.
وهكذا نتعلَّم مِن الهجرةِ كيف نَتحرَّر مِن العلائقِ، وكيف ننتصِر على العوائِق، نتعلَّم كيف نُضحِّي بالنَّفْس والمال، والجاه والملذَّات والأحباب والوطَن، نتعلَّم كيف نَتحرَّر مِن فكِّ قيودِ العادات، ونَتَّخذ مِن العامِ الهجريِّ الجديدِ منطلقًا للتحوُّلِ والهجرة عن كلِّ ما حَرَّم الله، وعن كلِّ عادةٍ سيئةٍ تخالِف رِضاه، ونربط هذا التحوُّلَ بجيل الصحابة، الذين تَحوَّلوا في حياتهم، ووطَّنوا الإيمانَ في قلوبِهم، وغادروا كلَّ ما يُحَبُّ مِن وطنٍ وأهلٍ ومال، فطَهُرتْ أنفسُهم، وحَسُنتْ نيَّاتهم، فأخلصوا لله، وتخلَّصوا مِن التعلُّق بما سواه، فزَكَّاهم وشهِد لهم بالصِّدق والنَّقاء والطهر؛ فقال- عزَّ مِن قائل-: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8].
فدَعوةٌ نُسطِّرها لأنفسِنا ولك- أيها القارئ الكريم- لننطلقَ بالهجرةِ إلى الله تعالى في عامٍ هجريٍّ جديدٍ، فهي كما يقول ابنُ القيم في كتابه الرسالة التبوكية: (سفَر النَّفْسِ في كلِّ مسألةٍ من مسائل الإيمان، ومنزلة مِن منازلِ القلوب، وحادثةٍ مِن حوادث الأحكام، إلى معدنِ الهُدَى، ومَنبعِ النُّور المتلقَّى مِن فمِ الصادِق المصدوق، الذي لا يَنطِق عن الهوَى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4]).
فلْنَمضِ مهتدين بهَديِ قائدِ المهاجرين صلى الله عليه وسلم ومستأنسين بحياةِ أصحابِه الكرام، الذين غيرَّوا التاريخَ، ورسموا لنا خُطَى العزِّ والنصر والتمكين، بدمائهم الزكية، وجهدهم الميمون رضي الله عنهم ورَضُوا عنه، وجمَعَنا وإيَّاهم في دارِ المتقين الأبرار.
فما هذا الاجهد مقل ولاندعي فيه الكمال ولكن عذرنا انا بذلنا فيه قصارى جهدنا فان اصبنا فذاك مرادنا وان أخطئنا فلنا شرف المحاوله والتعلم