دوشه نت اكبر تجمع عربي_ منتدى منوع .اسلامي .ثقافي .فني .كل الحصريات تجدها في دوشه نت.نحن نعمل على إرضاء جميع الاذواق
 
آخر المواضيع

شاطر

تفسير سورة الماعون

@ شبل الاسلام @@ شبل الاسلام @

عضوٍسوٍبر
عضوٍسوٍبر

 
ذكر
عدد المساهمات : 861

نقاط : 2005

اإلتقََـِِيِِيِِم : 3

تاريخ التسجيل : 05/10/2012

العمر : 27
رسالة
مُساهمةموضوع: تفسير سورة الماعون   تفسير سورة الماعون Emptyالجمعة أكتوبر 12, 2012 7:14 pm

فضل قراءة سورة الماعون:

1 ـ ابن بابويه باسناده، عن عمرو بن ثابت، عن أبي جعفر عليه السلام قال: "من قرأ سورة أرأيت الذي يكذب بالدين في فرائضه ونوافله كان فيمن قبل الله عز وجل صلاته وصيامه ولم يحاسبه مما كان فيه في الحياة الدنيا".

2 ـ روي عن النبي (ص)أنه قال: "من قرأ هذه السورة غفر الله له ما دامت الزكاة مؤداة ومن قرأ بعد صلاة الصبح مائة مرة حفظه الله إلى صلاة الصبح".

3 ـ وقال رسول الله (ص): "من قرأها بعد عشاء الآخرة غفر الله له وحفظه إلى صلاة الصبح".

4 ـ وقال الصادق عليه السلام: " من قراها بعد صلاة العصر كان في أمان الله وحفظه إلى وقته في اليوم الثاني".



أسباب نزولها:

علي بن إبراهيم في معنى السورة، قوله )أرأيت الذي يكذب بالدين( قال: نزلت في أبي جهل وكفّار قريش[1].

بسم الله الرحمن الرحيم



)أَرَأَيتَ الذِي يُكذِّبُ بِالدِّين * فَذَلِكَ الذِي يَدُعُّ اليَتيم* وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِين * فَوَيْلٌ لِلمُصَلِّين * الذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُون * الذِينَ هُمْ يُرَاؤُون * وَيَمْنَعُونَ المَاعُون (

صدق الله العلي العظيم



تفسير قوله تعالى:



)أَرَأَيتَ الذِي يُكذِّبُ بِالدِّين (

تبدأ السورة بقوله تعالى:

)بـسـم الله الـرحمـن الـرحـيـم(

)أرأيـتَ الـذِي يُـكـذِّبُ بِـالـدِّيـن(

وقد تحدّثنا حول آية البسملة في تفسير "سورة الفاتحة"، فمن أراد الإطلاع على ما قلناه، فعليه بمراجعة ذلك الكتاب.

وبالنسبة لسورة الماعون، نقول: إنّ هذه السورة تتحدّث عن خصوصيات ومواصفات الذي يكذّب بالدِّين، والمراد بالدِّين هو يوم الجزاء.

وتقول: ان من مواصفات هذا المكذّب، أنه يدعّ اليتيم، وأنه لا يحضُّ على طعام المسكين.

ونحن نبدأ حديثنا حول هذه السورة بطرح سؤال، ومحاولة الإجابة عليه، فنقول:



سؤال و جوابه:

لو سألنا سائل: من هو الذي يكذِّب بالدِّين؟

فسنقول له: إنه الإنسان الجاهل، المتكبّر، الإنسان الضال، المغرور برأيه وبنفسه.

ولا يخطر على بالنا: أن مجرّد عدم حضّ الناس على طعام المسكين، وكذلك دعّ اليتيم، يصلح أن يكون عنواناً للتكذيب بالدِّين، أو أن له أي ارتباط به.

ومعنى ذلك هو أنّ هناك أموراً نتخيَّل أنها لا أهمية لها، ثم يتبيَّن لنا أنها ترتبط بأمور خطيرة جداً، حتى على مستوى التكذيب بيوم القيامة. ومن جملة هذه الأمور ما ذكرته السورة المباركة من أنّ أوصاف وخصوصيات من يكذّب بالدِّين أنه لا يحضّ على طعام المسكين.. فكيف نفسّر ذلك! وعلى وفق أي معيار يمكننا أن نفهمه ونتعقله؟!

ويمكن أن يقال في الجواب: إنّ قضيَّة التديُّن أساساً، إنّما تعني العبودية، والخضوع، والانقياد لله عز وجل، والالتزام بأوامره ونواهيه، وهذا الخضوع يحتاج إلى استعداد نفسي، ولا يكفي أن يمارس الإنسان خضوعاً ظاهرياً جوارحياً، وحسب.

فالجندي مجبر على تأدية التحيّة لرئيسه، ولكنه لو خلِّي وطبعه فقد يكون يكرهه، بل ويكره الدخول في الجيش من الأساس.

ومن الواضح: أن الخضوع الحقيقي لله عز وجل يحتاج إلى معرفة ووضوح في الرؤية بالنسبة لألوهيته سبحانه وتعالى، وبالنسبة إلى صفاته، ثم إلى تقييم دقيق لحقيقة النعم والألطاف والرعاية التي يحبوه بها سبحانه.

وبتعبير آخر: إن التديّن عبودية إرادية، وخضوع يحتاج إلى معرفة، والمعرفة تحتاج إلى معايير ومقاييس وقيم، نقيس بها ما نعرفه، وتكون هي التي تتحكّم بهذه المعرفة، وتستثمرها لتنتج معرفة جديدة، وتنتج أيضاً موقفاً وحركة، ومشاعر، وأحاسيس، وحالة إيمانية، وأخلاقاً إنسانية..

فلا تكفي معرفة أنّ الله عز وجل قادر منعم خالق، بل ثمة حاجة إلى مقاييس وقيم، لتقييم هذه النعم: كالخالقية، والرازقية، وثمة حاجة أيضا الى تحديد حقيقة هذه القدرة الإلهية، ومدى حاجة الإنسان إليها، وما هو موقعه منها. ثم لا بدّ من استثمار هذه المعرفة في استمرار التنامي والتكامل، إذ ليس المطلوب تلك الحالة العلمية المعرفية فحسب وإنما العلم الذي يستتبعه عمل )الذين آمنوا وعملوا الصالحات(.

فعلى سبيل المثال: حينما نعلم أن الله منعم، فالنعمة تستدعي قيمة معنوية، هي حالة عرفان وشكر، ثم نستثمر هذه القيمة في أنفسنا خضوعاً، وفي موقفنا حزماً، وفي حركتنا سلوكاً، وفي روحنا محبة. فبدون هذه المقاييس، لا نقدر أن نحوِّل معرفتنا بالله وبنعمه وبخالقيته وبقدرته إلى مشاعر، ثم إلى مواقف صلبة للدفاع عن الحق، وعمّا يرضي الله تعالى في موقع رضاه.

لكن هذه القيم، التي هي من قبيل العرفان والشكر للنعمة، والتي اعتبرناها هي المقاييس والمعايير، تستدعي أن يكون ثمّة أخلاقية تجعل للقيم والمعايير دوراً. وهذه الأخلاقية تنشأ عن صفات روحيّة ونفسانية وإنسانية توجد في داخلنا، بها قوام إنسانيتنا.

فالأخلاق والحالات والميزات للإنسان كإنسان ـ لا كبشر ـ عاقل حكيم كريم شجاع قوي الخ.. هي التي يريد الله سبحانه أن تنتج لنا أخلاقية تتحكّم بالمعايير التي تجعلنا نستثمر المعرفة بالله، التي تتحوّل إلى حركة وموقف، وسلوك، ومشاعر، ومحبّة، ورفض، وقبول.

فينتج عن ذلك: أنّ الأخلاق، بما تكشف عنه من ميزات وخصائص في الشخصية الإنسانية الإلهية، هي أساس التديّن والالتزام.



فرعون مثال واضح:

ونقدّم فرعون كشاهد على ذلك؛ فإنّ فرعون حتّى ولو كان عارفاً، فإنه لم يكن يملك معايير لتثمير المعرفة؛ لأنه لا يملك ميزات في داخله روحيّة وإنسانية وأخلاقية، تنتج له هذه المعايير، أو تجعله يحكِّم هذه المعايير في معارفه، ويستثمرها.

بل كانت هذه الخصائص والميزات في داخل شخصية فرعون تتجه نحو السلبية العاتية والمدمّرة، فكانت خصائصه هي الجبن والشح واللؤم والضعف، التي نتج عنها حالة أخلاقية سيّئة هي الاستعلاء، الذي تجسّد في ممارساته طغياناً وغطرسةً وغروراً، إلى درجة إدّعاء الربوبية.

وأعطف على ذلك قصَّة إبليس، الذي انتهى به الأمر ليس فقط إلى أن لا يستعمل المعايير المطلوب استعمالها في الحالات التي تستدعي ذلك، بل هي قد أنشأت له معايير خاطئة، جعلته يسير في مسار انحرافي إلى الأبد، رغم أنه لم يكن يعاني من جهل فيما تكون معرفته ضرورية له في مثل هذه المواضع ولعل انقلاب المعايير هذا، بسبب الخلل الأخلاقي هو الذي دفع ذلك الذي آتاه الله آياته إلى أن ينسلخ منها.

قال تعالى:)واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان، فكان من الغاوين([2]

وقال تعالى: )أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة([3]. حيث لا شكّ في أنّ الضلال المراد هنا هو الضلال العملي. أي ضلال من ناحية العمل والسلوك، المسمّى بالانحراف السلوكي، وليس الضلال العلمي المعرفي.



خلاصة و بيان:

والخلاصة: أن الناحية الأخلاقية هي الأساس في تكوين الحالات الإنسانية العقلية والسلوكية، وفي تكوين المشاعر، وفي المحبّة والبغض، وما إلى ذلك.

وهنا نلاحظ: أن هذا هو السبب في أن البعض ينتهي إلى درجة: أن لا يحض على طعام المسكين، ثم يدع اليتيم. فإن نفس أن يفقد الإنسان الداعي، والمحرك الوجداني الإنساني العاطفي، والميزة الروحيّة، يؤدي به إلى هذه النتيجة الخطيرة، وهي الخروج عن حالة التوازن، والإمعان في الانحراف إلى درجة التكذيب بيوم الدين، حتى وإن لم يصل إلى درجة أن يتصف بالصفة الأسوأ، مثل حالة الاستكبار، أو ما إلى ذلك.

فلا يجوز إذن أن يستهين الإنسان ببعض ما يراه صغيراً، ولا أهمية له، فإنه قد يكون معبراً عن حالة نقصان وفقدان لأمرٍ خطير كهذا.



أهمية الأخلاق في حياة الإنسان:

وفي كل هذا، دليل واضح على أهمية وحساسية القيم والمعايير التي يتحرّك الإنسان على أساسها؛ حيث إنها تنشأ في الغالب عن الحالة الأخلاقية حسبما أوضحناه. وذلك يؤكد خطورة وأهمية دور الأخلاق التي تغرس في النفس المعاني الإنسانية وصفات الخير، وتنشِّؤها، وترشِّدها. وكم لها من تأثير على مستقبل الإنسان، بسبب عمق تأثّر الحالة الفكرية والإيمانية والمعرفية، بالميزات الروحية، وبالأخلاق. حتى أن فقدها (أي القيم والمعايير)يؤثر على سلامة المعرفة لدى الإنسان ويؤدي إلى أن يجحد بيوم الدين. وهذا يفسّر لنا: أن من الناس من يضلّه الله على علم، كما أنه يعرفنا كيف أن الطهارة من الذنوب تعين على فهم القرآن[4] حسبما روي عن الإمام السجّاد عليه السلام.

وكذا الحال في ما ورد من أن العلم ليس بكثرة التعلّم، وإنما هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء.

والمقصود ليس هو العلوم المادية طبعاً، فإنها مما يصل إليه المؤمن وغير المؤمن.

فإذا كان العلم نوراً، فذلك يعني: أن القضيّة ليست في أن يتعلّم الإنسان في المدرسة، أو لا يتعلّم فيها، بل القضية هي أن هناك درجات من العلم، لا يحصل عليها المتعلم إلاّ من خلال الأخلاق والإيمان والسلوك المستقيم، حتى إذا أخلّ بهذا الجانب، وحرم من الصفاء الروحي، فإنه يحرم من درجات وأنواع من العلوم.

وقد ألمحنا فيما سبق إلى قوله تعالى: )واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها (، فكم هو دقيق ولطيف هذا التعبير بالانسلاخ الذي يشير إلى أن هذه الآيات ملتصقة في فطرته، ناشئة معه، حتى أصبحت جزءاً من كيانه، حتى ليحتاج إلى الانسلاخ منها؛ (فانسلخ منها).

وهذا ما يشير إليه أيضا قوله تعالى: )ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة([5].

وقوله تعالى: )إن هم إلا كالأنعام بل هم أضلُّ سبيلاً([6]، وأمثال هذه الآيات كثير.



يزكو على الإنفاق:

ولا يفوتنا التنبيه إلى أنّ تحكيم القيم والمعايير بالمعرفة، وتثميرها بصورة إيجابية، يؤدي إلى الحصول على المزيد من المعارف، حيث إنّ هذا الاستثمار يهيّئ الإنسان روحياً، ويرفع من درجة استعداده واستيعابه، ويفتح أمامه آفاقاً، ويثير لديه أسئلة كثيرة أخرى، فكل ذلك يجعله يتحفّز للانتقال إلى درجات أعلى، تحتاج إلى وسائل وأدوات أرقى وأقوى وأدّق، مثل: التقوى والعمل الصالح، وإلى رقابة دقيقة على ذلك كله، من موقع الهيمنة والمعرفة والتدبير، فيحتاج إلى الحكمة الهادية لتلك الأخلاقية، وحافظة للمعرفة. قال تعالى: )يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً([7].

وقال عز وجل )يعلمهم الكتاب والحكمة([8].





أين دور الإنسان؟

ولعلك تقول: إن هذا يعني أن المعرفة والقيم الإنسانية وكذلك الحكمة، هي الأساس في صياغة شخصية الإنسان. فأين دور الإنسان نفسه ودور ملكاته في إنتاج الحدث، وفي صنع المستقبل؟.

ويجاب عن ذلك: إننا نتحدّث عن الوسائل والأدوات، التي يحتاجها المصنع في إنتاج سلعته التي يتاجر بها مع الله، أو مع الشيطان. ولم نتحدّث عن المصنع نفسه الذي هو الكيان، أو فقل الشخصية الإنسانية، التي خلقها الله تعالى في أحسن تقويم، لولا أنها هي التي تفرِّط بما وهبه الله إليها، فتبدأ بخسران ما حباها الله به، وتعود إلى أسفل سافلين، حيث قال الله سبحانه وتعالى: )لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات([9] وقال أيضاً: )إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر([10].

فإنّ الله عز وجل يعطي الإنسان كل ما يحتاجه، فهو يعطيه فطرة، ثم يعطيه عقلاً، وقدرة، وغير ذلك من أمور تجعله في أحسن تقويم )لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم..(.

ويقول له: إن أجهزتك صحيحة، مضبوطة كأي جهاز آخر، ويقول له: إن باستطاعتك تشغيلها، وستعمل بصورة صحيحة، إذا استعملتها حسب الأصول، أما إذا لم تحسن استعمالها، فالذنب ذنبك وسيحدث الخلل في أكثر من موقع، وتكاثر الخلل ويتّسع إلى أن تسقط عن صلاحية الاستعمال.


لماذا الاستفهام: أرأيت؟

وقد بدأت السورة بالاستفهام بالهمزة "أرأيت"؛ فما هو المقصود والغرض بالاستفهام هنا؟

ونقول في الجواب: إنه يمكن أن يكون ثمة عدّة معاني يراد الإيحاء بها، من خلال استعمال هذا الاستفهام.

فيمكن أن يقال: إنه قد جاء على طريقة إياك أعني واسمعي يا جارة، أي بهدف الإنكار على من يفعل ذلك، وتوبيخه، وتحذيره.

ويمكن أن يقال إنه للتقرير، والتقرير يلاحظ من وجوه:

أحدها: أن هناك غرضاً عقلائياً مقصوداً من تقرير الطرف الآخر، وتسجيل اعترافه الصريح بأنه قد رأى ذلك، والتفت إليه.

الثاني: أن هذا التقرير يهدف إلى تنبيه الطرف الآخر، وإخراجه من حالة الغفلة والذهول إلى حالة الوعي والالتفات.

الثالث: المبالغة في التعجّب من هذا الأمر، (أرأيت)وذلك بهدف المبالغة في إظهار بداهة الأمر ووضوحه إلى درجة أن كل إنسان لا بدّ أن يلتفت إليه.

الرابع: أن يراد تحذير الناس من هذا الأمر الخطير، وتهجينه بهذه الطريقة.



لماذا الاستفهام بالهمزة لا بــ "هل":

وأما لماذا استعملت الهمزة في مقام الاستفهام، ولم تستعمل كلمة "هل" فلعلّه لأجل أن المراد هو الإلماح إلى شمولية الاستفهام عن جميع الحالات، وعلى جميع التقادير.

وكلمة "هل" ليست لها هذه الشمولية، لأنها حرف استفهام موضوع لطلب التصديق الإيجابي، دون التصوّر، ودون طلب التصديق السلبي، فلا يقال مثلاً: هل لم يقم زيد. كما أن كلمة "هل" تستعمل بمعنى "قد" التي تفيد الإثبات، علماً بأنّ المورد هنا مورد النفي.

أما الهمزة فهي أصل أدوات الاستفهام، وليست خاصّة في شيء من ذلك، فهي ترد لطلب التصوّر، مثل: أزيد قائم أم عمرو. ولطلب التصديق، نحو: أزيد قائم. وقد تخرج عن الاستفهام الحقيقي ليراد بها التعجّب، والتقرير، والإنكار، وغير ذلك.



كلمة "رأى":

ثم استعمل في الآية الكريمة كلمة "رأى"؛ ليبيّن أن هذا الأمر على درجة من الوضوح حتى إنه ليرى بالعين، مما يعني أنه قد صار كأنه تجسّد على صفحة الواقع، وفي هذا ما لا يخفى من المبالغة القوية لإظهار وضوحه وظهوره.

وربما كان هو السبب في أنه تعالى لم يقل: أعرفت أو أعلمت، بل اختار كلمة: "أ رأيت" التي تستعمل عادةً في الأمور المشاهدة والظاهرة.



لماذا تاء الخطاب للمفرد؟

كما انه تعالى قد جاء بتاء الخطاب للمفرد، فقال: "أرأيت" فمن هو المخاطب بذلك يا ترى؟ هل هو النبي (ص)؟ أو كل عاقل يمكن أن يدرك هذه الحقيقة؟:

ونستطيع أن نجيب: بأن من الواضح: أن النبي (ص)هو رئيس العقلاء؟، وسيد البشر، فإذا كان الخطاب للعقلاء، فهو (ص)أولى بإدراك هذه الحقيقة.

فإذا كان الناس العاديون يرونها رأيَ العين، حتى كأنها متجسدة لهم، فكيف برسول الله (ص).

وهذا أولى من جعل الخطاب خاصاً بالرسول (ص)، فقد يتوهم متوهم أن غيره (ص)، قد لا يدرك ذلك، فضلاً عن أن يكون يراه.



تفسير قوله تعالى: )الذي( :

ثم انه تعالى لم يقل: أرأيت من يكذب بالدين، بل قال: )أرأيت الذي (ولعل ذلك يعود إلى أن كلمة "من" تستعمل عادةً في مثل هذه الموارد للعاقل، فلو أنّه عبَّر بها، فسيكون في ذلك بعض الإيحاء بأنّ من يتحدّث عنه يملك عقلاً ووعياً، مع أنه تعالى لا يريد أن يعترف لهذا المكذّب بالدين، بشيء من ذلك؛ لأنه لا يستحق هذا الوسام الشريف. وسيأتي حين الحديث عن كلمة )الذي يدعّ اليتيم( ما لعله يفيد في هذا الموضع أيضاً، فلا بأس بمراجعته.



تفسير قوله )يكذ ب( :

وهو تعالى قال: "يكذّب" بصيغة المضارع، ولم يقل: كذّب "بصيغة الماضي"، أو المكذّب "بصيغة اسم الفاعل".

ولعل السبب في ذلك هو أن الفعل المضارع يفيد التجدد والاستمرار، فكأنه تعالى يريد أن يفيد استمراره في ذلك، وأنه لم ينقطع عن هذا التكذيب، بل هو مصرّ عليه، ولم يزل يصدر منه مرة بعد أخرى.

كما أنه يريد أن يلفت النظر إلى اختيارية هذا الأمر، وأنه يصدر عن فاعله باختياره.

أما لو قال: أرأيت الذي كذّب "بصيغة الماضي" فلا يفيد استمرار التكذيب، فلعلّه حدث مرّة وانتهى.

وكذا لو قال: "المكذّب" بيوم الدين فإنها ليس فيها إشعار بصدور التكذيب منه باختياره، ولا تفيد أن هذا يتجدد منه باستمرار، ولم يزل يمارسه ويقدم عليه..



الخوف من الدين:

ما المقصود بكلمة: "الدين". هل المقصود بها الجزاء؟ أم الإسلام؟ أم غير ذلك؟

ويمكن أن نرجح أن المقصود بالدين هو يوم الجزاء، لأن ما يخشاه هؤلاء الناس هو هذا الأمر بالذات، وقد قلنا في تفسير سورة هل أتى، في قوله تعالى )بل يريد الإنسان ليفجر أمامه([11]: أن الإنسان إذا آمن بيوم الحساب والثواب والعقاب فإن حياته ستنقلب رأساً على عقب. لأن معنى ذلك هو أن تصبح حركته مقيّدة، وإرادته منقادة لإرادة من سيحاسبه، فيقول له: "اعمل كذا لأثيبك، وإن عملت كذا أعاقبك "، مع أن الإنسان يريد أن يكون مطلق العنان، يعمل على هواه ويمارس ما يحلو له.

إن المشكلة عنده ليست في الاعتقاد بالإله، إذا كان هذا الإله لا شغل له معه. وليس في الاعتقاد بالنبي، إذا كانت النبوة مقاماً، وملكاً، ومنصباً دنيوياً، همها المال، والجاه، والنساء، وغير ذلك.

وقد كان المشركون على استعداد لأن يعطوا النبي (ص)كل ما يريد، من مال أو ملك، ونساء، وغير ذلك. ولكن بشرط أن لا يقول لهم أن هناك آخرة وحساب وعقاب وثواب، لأن ذلك يعني مصادرة قرارهم، وتقييد حرياتهم، وهـم يريدون أن يكونوا أحراراً فـي دنياهم ـ حسب فهمهم ـ يدعّون اليتيم، ولا يحضّون على طعام المسكين، ويراؤون، ويمنعون الماعون، وعن صلاتهم يسهون، ويغفلون.. )بل يريد الإنسان ليفجر أمامه(.

وربما يكون هذا مرجحاً لأن يكون المقصود بالدين هو الجزاء في يوم الجزاء، ولعل هذا هو بعض ما يرمي إليه الإسلام من اهتمامه بالآخرة، وزيادة يقين الناس بها، فشرّع زيارة القبور، وقال: زوروا القبور تذكركم الموت وقال عن الصيام: " اذكروا بجوعكم وعطشكم جوع وعطش يوم القيامة "، إلى غير ذلك مما يفوق حدّ الحصر. مما يدل على اهتمام الإسلام بربط الإنسان بالآخرة، باعتبارها من أهم أسس الالتزام بالتشريع، وهي الوسيلة الأكثر فعالية في ضبط حركة الإنسان في الحياة، لأن الإيمان بالله أولاً ومن ثم الإيمان أن هناك آخرة ويوماً للحساب من شأنه أن يغيّر من سلوك الإنسان تغييراً جذرياً يجعل المؤمن لا يستوي مع غيره )أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون([12]..



تفسير قوله )بالدين( :

ويبقى هنا سؤال، وهو: أنه لماذا قال: )يكذّب بالدين(ولم يقل: "يكذّب بيوم الدين".

والجواب: أن التكذيب بأصل الجزاء والدين أشدّ قبحاً وهجنة من التكذيب بيوم الدين. وذلك لأن هذا الأمر يخالف المعايير العقلية والفطرية، لأن معناه: أن يعتقد الإنسان بعدم وجود ضوابط وأسس بنيت عليها هذه الحياة؛ ولذلك لا يجاز المسيء بإساءته، ولا يثاب المحسن بإحسانه، مع أن هذا هو المعيار الأساس فيما يرتبط بتعامل الناس مع بعضهم، ومع الله، ومع كل شيء، لأن تكذيب أصل الجزاء، وأن يكون هناك قيمة للعمل: مثوبة، إذا كان حسناً، وعقوبة، إذا كان قبيحاً ـ إن هذا التكذيب ـ إنما يعني هدم أساس الحياة.

وهذا أخطر ما يمكن أن يواجهه الإنسان في حياته. وهو أن لا يبقى هناك ضابطة لما يقوم به، ويصبح عمله منطلقاً من غرائزه، وشهواته، وتخيلاته. وبذلك يصير العمل عشوائياً، وتفقد القوانين والشرائع الإلهية وكذلك القيم قيمتها، وتفقد حتى القوانين البشرية فعاليتها.

ويسقط كل شيء، ولا يبقى ما يحكم حركة الإنسان وسلوكه في الحياة.

ولو أنه تعالى قال: "يكذب بيوم الدين" فقد يُتخيّل أن هذا لا يعني التكذيب بنفس الجزاء، وبالدين، باعتبار أن الجزاء حتى لو كان ثابتاً، لكن ليس بالضرورة أن يكون في الآخرة، فقد يكون في دار الدنيا، وقد يكون فيهما معاً.

كما أن صور الجزاء قد تكون مختلفة، فقد يجازيه بالمرض، أو بالهم، وبالتضييق عليه بالرزق.

وقد يكون بالاقتصاص العلني الفاضح، وبغير ذلك.

والخلاصة: أن التكذيب بوجود يوم محدد، يحاسب فيه الإنسان على فعله لا ينافي الاعتقاد بأصل وجود الجزاء.

فاليهود يرون أو يرى قسم كبير منهم على الأقل: أن جزاء الأعمال إنما هو في هذه الدنيا، في وادٍ يسمى وادي الهلاك، حيث يتعرض الإنسان فيها لمصائب ومصاعب، أو نحوها. أما الآخرة بما لها من تفاصيل كوجود جنة ونار، وحساب وثواب، وصراط، وشفاعة، وغير ذلك فإنهم لا يعتقدون بذلك.

ولأجل ذلك أحب اليهود هذه الحياة الدنيا كأشد ما يكون الحب، وكانوا أحرص الناس على حياة مهما كانت تافهة وحقيرة وذليلة. ولأجل ذلك أيضاً وضعوا تعاليم تبيح لهم ارتكاب كل جريمة وعظيمة.



أسلوب تهجين:

ثم إن نفس أن يستعمل كلمة "الذي" دون كلمة "من" الموصولية، ثم أن يكون الاستفهام بالهمزة، ثم اختيار كلمة "رأيت"، وتاء الخطاب، وغير ذلك مما تقدّم، إن هذا كله يهيّئ إلى أن ينفر الإنسان من هذا الشخص، وأن يستقبح ويستهجن صدور ذلك منه.




تفسير قوله تعالى:

)فَذَلِكَ الذِي يَدُعُّ اليَتيم( )وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِين(

السقوط المريع:

ثم أراد سبحانه استثمار هذه الحالة، بتجسيده نتيجة هذا التكذيب بالدين، فيما ذكره بقوله: )فذلك الذي يدعّ اليتيم(حيث ظهر أن من يكذب بالدين سينتهي به الأمر إلى رفض المثل والقيم. ويتجلّى ذلك في أنه يدعّ اليتيم، الأمر الذي يدل على فقدانه للعواطف الإنسانية، التي هي من أهم لوازم الوعي والمعرفة، نتيجة يقظة الضمير، ونبضات الحياة في المشاعر.

فالذي يكذب بالدين، ليس فقط لا يتورع عن الإساءة إلى اليتيم، بصورة عابرة، بل هو يندفع إلى اليتيم، ويلاحقه ليوصل إليه الأذى، حيث يدعّه، أي يدفعه بعنف. مع أن هذا اليتيم هو إنسان قد أقبل عليه، ورمى نفسه في أحضانه، فالمفروض بحسب خلقيات البشر أن يحتضنه، ويرحمه؟، ويخفف من آلامه، وإذا به ليس فقط لا يرحمه، ولا يحتضنه، ولا يمسح دمعته، ولا على رأسه، وإنما يعامله بقسوة وعنف. متجاوزاً القول إلى الفعل باستعمال قوّة الجوارح، وشراسة الطاغي، فيلحق بنفسية اليتيم الأذى، ويحدث عنده صدمة مدمّرة، لأنه لا يرى في نفسه أنه أساء إليه، أو اعتدى عليه.





فاء التفريع؟ أم فاء الفصيحة؟

وعن الفاء في قوله: )فذلك(، نقول: هل هي للسببية؟ أم فاء الفصيحة؟ فإن كانت للسببية صار المعنى: أن التكذيب بالدين ينتج عنه دعّ اليتيم؛ فالسبب هو التكذيب بالدين، والمسبب والناتج هو دعّ اليتيم.

أما إذا كانت الفاء هي فاء الفصيحة، فهي تشير إلى هذه السببية بطرف خفي. فإن فاء الفصيحة أو الفضيحة ـ هي التي تفصح عن شرط مقدر؛ فكأنه قال: أرأيت الذي يكذب بالدين؟ إن كنت لم تره فنحن نريك إياه، إنه الذي يدعّ اليتيم، ولا يحضّ الخ.. وفي ذلك إشارة إلى أن هذا الأمر لا ينسجم مع التفكير السليم، ولا مع الفطرة المستقيمة، وهو أمر لا يعرفه الناس، بل هم إذا رأوه ينكرونه.

وإنما سمي المنكر منكراً، لأنه لا يعرفه الإنسان المؤمن ولا يألفه، ولا يليق بأن يفكر فيه، أو أن يحضره في ذهنه. والمعروف هو الذي يألفه و يعرفه بعقله، ووعيه، ومشاعره، وفطرته، ويميل إليه، وينسجم معه.

وإذا ارتكب البعض هذا الأمر المنكر والمرفوض من قبل العقل والفطرة، والمشاعر، فإن الناس سيلتفتون إليه، وينكرونه لأنه غير مألوف لهم، ولأنه يصادم فطرتهم، وعقلهم، ومشاعرهم.



البعد عن ساحة الكرامة:

وقد جاء بكلمة "ذلك" للإشارة إلى المخاطب البعيد أكثر من المعتاد: لأن كلمة ذاك للبعيد، وذلك للأبعد.

فيرد هنا سؤال هو: إن كلمة "رأيت" فيها إلماح إلى قرب ذلك الذي يتحدث عنه، لأنه على مرأى ومسمع منه، حتى أنه يقول للمخاطب، "أرأيت".

والإشارة بكلمة ذلك صريحة في بعده عن ساحة القرب أكثر من المعتاد، فكيف نجمع بين الأمرين؟.

والجواب: إن كلمة "رأيت" تشير إلى أن من يدعّ اليتيم، لا يخجل بفعله، بل هو يتجاهر به، وكأنه من الأمور العادية عنده، حتى إنه ليراه القريب والبعيد يفعل ذلك.

واستعمل اسم الإشارة للأبعد، للتأكيد على إرادة تحقير هذا الشخص، وأنه منبوذ عن مقام التشريف والكرامة، ولا يستحق أن يكون في محضر الناس الذين يحترمون أنفسهم، لأنه شخص رذل، سفيه، منحط في أخلاقه. ولأجل ذلك لم يقل: فهو الذي يدعّ اليتيم، ولا قال: فذا الذي، ولا قال: ذاك الذي، بل استعمل الإشارة للأبعد، فقال: "ذلك"، لإظهار المبالغة في إبعاده عن مقام الكرامة، لأنه لا يملك صفات تؤهله لأن يكرم.



المقصود بالبيان هو الصلة وليس الموصول:

ثم أنه تعالى قال: "الذي يدعّ" فأتى باسم الموصول، ولم يأت بالاسم الظاهر، أو بالضمير لأجل التنصيص على الصلة. وذلك لأنك تارة تريد أن تعرّف شخصاً، كزيد مثلاً، فتقول: هو شاب أبيض اللون طويل، الخ.. من دون أن يكون لهذه الأوصاف أية قيمة سوى أنها تعرّف مخاطبك به، وتميزه له عن غيره.

ومرّة يكون المقصود هو التعريف بأوصافه، أو أفعاله، حيث يراد التنفير منها والردع عنها، فتقول: هو قاس، ظالم، منحرف، يدع اليتيم، ويكذب بيوم الدين، من دون أن يكون لك غرض بالشخص، من حيث طوله، وعرضه، واسمه، وعنوانه، ولا تريد تمييزه عن غيره.

فالمقصود هو صلة الموصول وهو أنه منحرف، وقاس، ويدع الخ.. وليس المقصود نفس الموصول. فيصحّ منك ـ والحالة هذه ـ أن تتحدث عنه بواسطة الإشارة بذا، ثم الحديث عنه بالموصول، وذلك من أجل التوصل إلى تقبيح فعله، وإدانة ما يصدر منه من تصرفات، وتسجيل تحفّظ على هذا النوع من الاتجاه الانحرافي، والتفكير المريض.



يدعُّ اليتيم:

ونلاحظ هنا: أن الله سبحانه وتعالى لم يقل: يدفع اليتيم، أو يردّ اليتيم، وإنما قال: يدعّ اليتيم. والدعُّ هو الدفع بجفاء وقسوة، وعدم احترام.

ومن الواضح: أن أقصى درجات سوء الخلق هو أن تدفع يتيماً عنك، وهو مقبل عليك، بكل أمل ورجاء ـ نعم تدفعه ـ بقسوة، وعنف، وبدون احترام.

ولو أنه تعالى قال: يدفع اليتيم، لاحتمل السامع أن يكون قد دفعه برفق، فإن مجرد دفعه لا يدل على أنه لا يحترمه، أو لا يعطف عليه، فلعلّه دفعه، لأنه لا يريد، أو لا يستطيع أن يلبّي طلباته.

ولكنك حين تقول: يدعُّ، فإن معناه: أنه يتصرّف تصرّفاً مسيئاً ومشيناً على جميع الاحتمالات، وذلك لما يتضمنه من عنف وقسوة، وهذا لا يناسب حالة اليتيم، ولا ينسجم مع عنوان اليتيم، الذي يستبطن حالة الحاجة إلى العطف وإلى الاحتضان، ويشير إلى أنّ إقباله على ذلك الشخص هو إقبال اليتيم، وليس إقبال الطاغي، والباغي..



الأمر ليس مجرّد حدث قد مضى وانقضى:

ثم إنه تعالى لم يقل: فذلك الذي دعّ اليتيم، ربما لأنه يريد أن يبيّن أن هذا الفعل مما جرت عليه عادته وسيرته، فهو حالة مستمرة الصدور منه. فكأن هذا العمل يصدر منه عن طبيعة وخلق، الأمر الذي صحح الإشارة إلى هذا الاستمرار الطبيعي بواسطة الفعل المضارع.



من هو اليتيم؟!

واليتيم هو إنسان: لم يبلغ الحلم، قد فقد أباه الذي يكفله، ويدبر شؤونه من موقع المحبة والدراية، والحكمة.

أما من يفقد أمه فلا يقال له يتيم في المصطلح الشرعي.

فاليتيم إذن يحتاج إلى راع، وكفيل يعامله معاملة إنسانية، ويحتاج إلى رفق وحنان، وعاطفة ليعوّضه عما فقده، ويسد له خصوص هذا النقص، ويدبر أموره بحكمة، وبدافع عاطفي إنساني.

فإذا توجّه هذا اليتيم إلى من يأمل فيه ذلك، فواجهه بالقسوة والعنف، فكيف ستكون حاله، وكيف يمكن وصف مشاعره وانفعالاته في تلك اللحظات.

فالذي يدعّ اليتيم يفقد الدافع الإنساني والشرعي لمساعدته، والرادع الخلقي والشرعي عن الإساءة إليه، فهو لا يملك مشاعر إنسانية، ولا عاطفة لديه، ولا يشعر بآلام غيره، ولا يحس بالمسؤولية الشرعية، ولا يرى أن هناك جزاء على فعله، ولا يخاف من حساب ولاعقاب ولا عتاب، ومن يكون كذلك، فأي شيء يمنعه من الإيذاء والاعتداء على الآخرين والإساءة إليهم، ولماذا لا يتلذذ بزيادة آلام المعذبين، والتشفّي بهم؟!.



منتهى السقوط البشري:

ثم إنه تعالى قال: )ولا يحضّ على طعام المسكين(فأشار سبحانه هنا إلى أدنى درجة انحط إليها هذا الإنسان في تعامله مع اليتيم، وذلك لأن هناك نوعان من الناس:

الأول: ذلك الإنسان الذي يرفض إطعام المسكين، لسبب أو لآخر ـ مثل حاجته هو إلى طعامه، أو إلى ماله، أو لشحّ نفسه به. ولكننا نتوقع منه أن يعمل على تهيئة من يطعم هذا اليتيم، انطلاقاً من شعوره الإنساني وإحساسه بآلامه وتشجيعاً منه لآماله.

الثاني: الإنسان الذي لا يحض على طعام المسكين حتى أصبح ذلك ظاهرة في حياته، وسلوكاً طبيعياً له، مما يعني أنه فاقد للعاطفة الطيبة، خصوصاً وأن الذي يحتاج إلى هذا الطعام ليس مجرد فقير عادي، بل هو فقير إلى درجة أن فقره أسكنه عن الحركة، وأقعده عن طلب الرزق، ومنعه من السعي والظهور، الأمر الذي يعني أن ما يحتاجه هو مما تقوم به حياته، وليس هو لمجرد التوسعة، والخروج من حالة الضيق العادي.



المسكين:

ويلاحظ: أن كلمة مسكين لا تخلو من الإلماح إلى التكثير أيضاً؛ لأنها جاءت على طريقة صيغ المبالغة؛ فهي على وزن كلمة "منطيق"، بل قد يدّعى أنها مثل كلمة: " شرّيب، وسكّيت، وضلِّيل ".

وقد قال ابن قتيبة: "ما كان على (فِعِّيل)فهو مكسور الأول، لا يفتح منه شيء، وهو لمن دام منه الفعل نحو رجل (سكّير)." إلى أن قال: "ولا يقال ذلك لمن فعل الشيء مرّة أو مرتين، حتى يكثر منه، ويكون له عادة" [13].



خلاصة الأمر:

إنه إذا كان التعبير بكلمة "مسكين" يشير إلى أن فقر هذا الإنسان قد ظهر وبدا عليه في سماته، وفي حركته ومظهره؛ فعدم الحض على طعامه يظهر مدى قسوة قلب الذي ليس فقط لا يطعمه، بل هو لا يشجّع على إطعامه ولا على إرجاع طعامه إليه، ولم يتحرك قلبه تجاه ما يراه من حاجته وبؤسه.

فاتضح: أن هذا الأمر الذي قد لا يلفت نظر أحد، قد أرشدنا إلى حقيقة مهمة تكمن في شخصية الإنسان، وهي أنه يفقد شيئاً مهماً جداً وأساسياً في الحياة. حتى وإن لم يفعل شيئاً مؤذياً للمسكين، حيث إنه لم يضربه، ولم يشتمه، ولم يمنع أحداً من إطعامه، ولم يبادر إلى دعِّه ودفعه بقسوة، نعم.. رغم ذلك فقد تحدّث القرآن عن أن هذا الموقف اللامبالي هو أيضاً من مظاهر التكذيب بالدين، تماماً كما هو الحال في من يدعّ اليتيم.



لماذا بصيغة المضارع؟

وأما لماذا قال: "يحض" بصيغة المضارع، ولم يقل "حضّ" بصيغة الماضي.فلعلّه ليظهر أن هذا الشخص مستمر على هذا الأمر دائب عليه، حتى ليبدو أنه سجيّة له. مما يكشف عن أنه لا يملك مشاعر، ومواصفات إنسانية، ومعنى أن يكون الإنسان مسلماً: أنه يتحلّى بالميزات الإنسانية، من شجاعة، وكرم، وصدق، ووفاء، وغيرها.. كما أن معنى كونه مسلماً: أنه يملك المشاعر الجيّاشة، والعاطفة الفيّاضة، وكل ذلك يتناقض مع كل صفات الرذيلة والسوء والشر، ويحتم التخلّص منها.



الشخصية المتوازنة:

ثم إن المشاعر والأخلاق، والحالات النفسية للإنسان لها دور أساس وحساس في تدينه، وقد قلنا: إن السبب الذي دفع فرعون ليدعي الربوبية هو استكباره، وهو حالة أخلاقية، وكذلك إبليس.

وبسبب عدم الالتفات إلى هذه الحقيقة فقد يخطئ من يقرأ حياة رسول الله (ص)، وحياة الأئمة (عليهم السلام)في تفسير بعض ما يصدر عنهم (ع)، أو يشكل عليه فهمه، وفهم مراميه، ومقاصده، ومغازيه.

فما أكثر ما نجد في سيرة النبي (ص)أو الإمام علي عليه السلام أنه قد بكى لهذا الحادث، أو لذاك، الأمر الذي يثير أسئلة ملحّة عن السبب في ذلك، فهل سببه هو أن مشاعره مرهفة، وعواطفه جيّاشة وحساسة إلى هذا الحد؟ كيف ونحن نجد أن هذا النبي يصمد هو ووصيه في وجه جيش بأكمله، يتحرّق ليقطعهما إرباً، إرباً، حتى إن بعض نساء ذلك الجيش، وهي هند أم معاوية، قد استخرجت كبد عمه الحمزة، وحاولت أن تأكل منه.

أمّا ابن عمّه علي عليه السلام الذي كان يبكي لأي مشهد عاطفي يواجهه، فإنه ذلك الرجل القوي، والحازم، والشجاع، الذي يقتل في ليلة الهرير مثلاً خمس مائة وثلاثة وعشرين رجلاً، وهو الذي اقتلع باب خيبر وقتل مرحب اليهودي، و كان قد قتل عمرو بن عبد ود في غزوة الخندق.

أمّا الإمام الحسين عليه السلام الذي بكى في أكثر من مقام في كربلاء فيحارب ثلاثين ألفاً بسبعين رجلاً من أصحابه، ثم يُذبح طفله الرضيع على يديه من الوريد إلى الوريد، فيتلقّى دمه بكفّه ويلقي به نحو السماء، ويقول: هوّن ما نزل بي أنه بعين الله [14].. فكيف نفسّر هذا البكاء، وهذه الرقّة هنا، وهذا الحزم وتلك الشدّة هناك؟.



وفي مقام الإجابة على هذا السؤال نقول:

إن البكاء ليس دليل ضعف؛ لأن الله عز وجل، من خلال الفطرة والإيمان، والعلم والعمل، قد جعل شخصية النبي (ص)والإمام علي عليه السلام، وكل مؤمن، شخصية متكاملة ومتوازنة. ولا يمكن أن نفسّر بكاء الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء في العديد من المناسبات، على أنه بكاء ضعف وانهزام، لأنه عليه السلام قد سجّل في كربلاء أروع صور البطولة والفداء بنفسه وبأهل بيته وأصحابه حتى لم يبق منهم أحد.. ثم أقدم على الشهادة مع علمه بسبي نسائه وأطفاله، فلو أن الحياة الدنيا كانت هي هدفه عليه السلام، فقد كانت الخيارات الأخرى مفتوحة أمامه.

إن الحقيقة هي: أن هذا البكاء ليس بكاء ضعف، وإنما هو بكاء القوّة، وبكاء الإنسانية والعاطفة، تتجلّى في سمات الشخصية المتوازنة، التي صنعها الإسلام بالإيمان والعمل الصالح، والمعرفة بالله عز وجل، وفي دائرة التربية والرعاية الإلهية لأصفيائه وأوليائه.

فبكاء النبي (ص)والولي عليه السلام، وكل مؤمن، هو دليل كماله، ودليل واجديته للمشاعر الإنسانية التي يريد الله له أن يتحلّى بها، وعلى أن لديه الخشية من الله، وعلى أنه يشعر بآلام الآخرين، لأن الله هو الذي يريد منه ذلك.



جمعت في صفاتك الأضداد:

ثم إنك حين تكون شجاعاً، قوياً، وحازماً ووفياً، و.. فلأن الله يريد أن تكون كذلك. وليس ثمّة أي تناقض فيما بين هذه الحالات وبين حالات الرقّة، والرأفة، والانفعال العاطفي، إلى درجة البكاء، حين يكون ثمة ما يقتضي ذلك. بل هي منسجمة تمام الانسجام، وفي كمال الوفاق والوئام.

وأما قول صفي الدين الحلِّي رحمه الله في عليٍّ عليه السلام:

"جمعت فـي صفاتـك الأضـداد فـلـهـذا عـزّت لك الأنـداد"

فما هو إلا قول شاعر، أراد أن يجري كلامه وفق ما ألفه الناس واعتادوه، أو ما اختاروه لأنفسهم وأرادوه.



الإنسان يختار إنسانيته:

والإسلام يريد لهذا الإنسان أن يستأنف سيره التكاملي، ويحصل على المزيد من المكاسب في هذا الاتجاه بواسطة الإيمان والعمل الصالح، وبالصبر على مكابدة ذلك. والذي لا يحضّ على طعام المسكين قد انتهت به الأمور إلى درجة أنه لم يعد يتفاعل مع الأشياء، ولا يتأثر بما تختزنه من حوافز. فبأي شيء يتكامل إذاً؟ وكيف يحصل على الميزات الإنسانية التي يريد الإسلام أن يوجدها فيه، فإن الله لا يجبر أحداً على اختيار ميزاته الإنسانية، بل الإنسان هو الذي يبادر إلى الحصول عليها، بجهده وتعبه، وبملء إرادته. فهو يولد على الفطرة، وهي صفحة بيضاء نقيّة، كالمرآة، وقد تتعرض للتلوّث لسبب أو لآخر، ولكنها تلويثات تبقى قابلة للإزالة، ويتوجه التكليف إليه هو بالذات ليتولّى ذلك، وليصونها من أي طارئ آخر.

ثم أنه مما آتاه الله من عقل، وإرادة، واختيار، ومما زوّده به، أو وضعه تحت اختياره من إمكانات، يستفيد منها وفقاً للتكليف الشرعي، المنطلق من المعرفة، يصبح قادراً، ومكلّفاً ببناء شخصيته، والحصول على خصائصه وميزاته الإنسانية بجهده، وعمله الدائب، وبإرادته، واختياره.

وبذلك يفترق الإنسان عن الحيوان الذي لا اختيار له في ما يرتبط بصفاته وميزاته الحيوانية، لأنّ الله قد خلقه كاملاً في ذلك، ويبقى كذلك.



طعام أو إطعام:

وأما لماذا قال: "على طعام" ولم يقل: "على إطعام المسكين"؟.

فالجواب: هو أن هذا الإنسان الذي عبّر عنه القرآن هنا بالمسكين؛ قد انتهى به الفقر إلى درجة أنه أسكنه عن الحركة، وأذلّه.

وقد قرر الله له في أموال الناس حقاً معلوماً، للسائل والمحروم.

وهذا المسكين هو أصدق وأظهر المصاديق لذلك القرار الإلهي، فلماذا لا يأخذ أمواله التي جعلها الله له؟!.

إذن فقول الله ): عز وجل لا يحض على طعام( ولم يقل: "على إطعام المسكين" ليعرفنا أن هذا الطعام هو طعامه، قد ملكّه الله إيّاه، فهو دين له عندنا، فإذا أخذه فإنه قد أخذ ماله، ولم يأخذ مال أحد من الناس.

ولو أنه عبّر بإطعام لم يدل ذلك على أن الطعام له، فلعل الطعام للناس، ونحن نطلب منهم أن يبذلوه له، على سبيل الهدية أو الصدقة الحسنة منهم، انطلاقاً من كرم أخلاقهم!!.

وإذا كان هذا الطعام ملكاً للمسكين، فلا يحق لأحد أن يمتنّ به عليه، ولا حتى أن ينتظر منه الجزاء، أو الشكر عليه، فهل يصح الامتنان على الإنسان بما هوله؟!



وبعد ما تقدّم نقول:

أي قلب قاس، هذا الذي لدى إنسان ليس على استعداد حتى لأن يحض غيره على طعام هو ملك وحق للمسكين نفسه، أي على أن يبذلوه له. ولعله لم يورد كلمة "بذل" وأوقع الحث على الطعام مباشرة من أجل الإشارة إلى لزوم التسريع في البذل والإيصال المباشر إليه لمسيس حاجته إلى هذا الطعام. فلا مجال للتأخير، ولا لأن يفصله عنه زمان حتى ولو زمان تلفظ بكلمة واحدة هي كلمة "بذل". ولذلك قال: ولا يحض على طعام ولم يقل على بذل طعام.



وبعد ما تقدّم نقول:

إذا كان حال المسكين هو هذا، فأي قلب لدى هذا الإنسان الذي ليس على استعداد حتى لأن يحث غيره على إعطاء الحق إلى صاحبه، رغم أن الحق هو من جنس الطعام الذي به قوام الحياة، ورغم أن صاحب الحق هو إنسان قد بلغ به الفقر حداً أسكنه عن الحركة، وأخمد نبضات الحياة فيه.

نعم.. لقد بلغت الصلافة والقسوة بهذا المكذب بالدين حداً خطيراً.. ومرعباً.. فلن تجد لديه أي أثر للمشاعر الإنسانية وللأخلاق النبيلة، ويكفيك شاهداً على ذلك، أنه ليس على استعداد لأن يتفوّه ولو بكلمة واحدة تحثّ غيره على إيصال مال الناس إليهم، حتى ولو كان صاحب المال مسكيناً، وكان ماله من جنس الطعام. فهل يمكن والحال هذه أن نتوقّع منه أن يسخو بمال نفسه على أي إنسان آخر؟ مهما كانت حالة ذلك الإنسان بالغة السوء والهوان؟!.



الحديث عن حالة إنسانية:

ونلفت الانتباه إلى أن الله عز وجل قد تحدّث هنا عن خصوص الحالة الإنسانية، ولم يتحدّث عن الاندفاع إلى مساعدة المسكين بدافع التقرّب إلى الله سبحانه، ربما لأنه يفقد هذا الدافع؛ لأنه لا يخاف الله، وإنما يخاف من العصا، وإذا كان لا يؤمن بجزاء ولا بحساب ولا بعقاب ولا بيوم دين، فليس ثمة من عصا يخافها.

وربما كان هذا هو السبب في أنه تعالى قد أبرز الصفة الأشد سوءاً لديه وهي كونه يفقد العاطفة الإنسانية، والمشاعر النبيلة التي لا يخلو منها بشر ـ بحسب العادة ـ حتى ولو لم يكن مؤمناً، إلاّ أن المكذّب بالدين هو الذي يفقدها.



لا يكفي الاستدلال:

وقد ظهر مما تقدّم: أن التكذيب بالدين، يفقد الإنسان خصائصه الأخلاقية، والإنسانية، أو يضعفها، الأمر الذي يؤدي إلى أن تضعف في نفسه المشاعر والأحاسيس والقيم. وهذا بدوره يؤدي إلى صعوبة التسليم والانقياد لله عز وجل، حتى لو قامت الأدلة عنده على الألوهية والتوحيد.



تفسير قوله تعالى:

)فَوَيْلٌ لِلمُصَلِّين * الذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُون (

المكذب بالدين لا ينتفع بأفضل أعماله

ثم قال تعالى: )فويل للمصلين(. ولنبدأ حديثنا في هذه الآية عن الفاء، فهل هي للسببية أو للتفريع؛ فإن كانت للسببية، كان المعنى: أن من يفعل تلك الأمور يصير إنساناً سيئاً إلى درجة أن تنقلب حسناته، وأشرف وأفضل أعماله إلى سيئات، مع أنها يفترض أن تسهم في تهذيب نفسه، وترسيخ كمالاته، وتصفية روحه، وتأكيد فضائله.. حتى أن صلاته، التي يفترض أن تكون معراجه إلى الله، ووسيلة القرب إليه عز وجل، وتسهم بتطهير نفسه، تصبح في خدمة الرذيلة، حين يستعملها لخدمة الأهداف السيئة، ومعولاً يستعمله في هدم فضائله وكمالاته، ومروءته، وشرفه، فهو يرائي بصلاته، وبأعماله الصالحة ليخدع الناس، ويكيدهم بها، وليتوغّل في المعصية، وليسيء إلى الآخرين، فيسلب أموالهم، ويتسلّط عليهم، ويتوصل بها إلى ارتكاب الموبقات، التي تلوّث روحه وتهدم شخصيته الإيمانية والإنسانية.



حب الدنيا هو السبب:

والذي مهّد لذلك هو: أن السبب في دعّ اليتيم، وعدم الحضّ على طعام المسكين، هو حب الدنيا، وسيطرة الشهوات، والأهواء عليه، وضعف أو عدم إيمانه بالدين والجزاء. فيسّر له ذلك التظاهر بالصلاة، لكن لا ليتقرّب بها إلى الله لضعف الدافع لديه إلى ذلك، بسبب فقده الإيمان بالجزاء حتى لو اعتقد بالله، فأنه اعتقاد لا أثر له إذا كان لا يخاف من حسابه ولا من عقابه، بل هو حتى إذا تظاهر بأنه أراد الله يعمل من أعماله، فإنما يريده كأداة توصله إلى شهوات الحياة الدنيا.

وعلى هذا الأساس فإن دعّه لليتيم، وغير ذلك مما يشبهه، سوف ينشأ عنه الغفلة والسهو عن الصلاة، التي يريد أن يسيء بها إلى الآخرين، ويستخدمها وسيلة للوصول إلى مآربه، حسبما ألمحنا إليه فيما تقدّم.



الأولوية الظاهرة:

هذا كله، لو كانت الفاء في قوله: "فصل" للسببية، أما إذا كانت للتفريع، بمعنى أنه إذا كان هذا يدعّ اليتيم، و.. فإن صدور الإساءة منه المتجسدة بغفلته عن صلاته، وعدم الاهتمام بها، تكون بطريق أولى. لأنّ كلا الأمرين يعود إلى منشأ واحد ولو لم يكن أحدهما سبباً للآخر.



تفسير قوله )فويل للمصلين( :

وقد ورد في بعض الروايات: أن كلمة: "ويل" اسم وادٍ في جهنم، فيكون المعنى: أن الله أعدّ هذا الوادي لهؤلاء الناس الذين يسهون عن صلاتهم، ويراؤون ويمنعون الماعون.

ويلاحظ: أنه تعالى قد انتقل من الحديث عن آثار الذنوب إلى الحديث عن العقوبة أو عن الحالة المخزية والنتيجة التي ينتهي إليها من يدعّ اليتيم، ومن لا يحضّ على طعام المسكين، حيث ينتهي به الأمر إلى أن يستخدم حتى صلته مع الله في الإساءة إلى الناس وإلى نفسه، حيث يدمّر خصال الخير فيها. فمن انتهى به الأمر إلى هذا الحد كيف ستكون حاله، وما هو مآله، فهل سوف يقتصر سوء فعله على دع اليتيم، وعدم الحض على طعام المسكين؟ أم أنه سوف يترقّى في إجرامه إلى ما هو أعظم وأخطر من ذلك، على نفسه، وعلى المجتمع. وفي نطاق الجرأة على إله العباد؟.



إبهام العقوبة، لماذا؟

ويلاحظ هنا: أنه يوجد نوع من الإبهام للعقوبة التي تنزل بهذا النوع من الناس، حيث اكتفى بالإشارة إلى أنهم سيواجهون واديا في جهنم اسمه "ويل".

ولو أخذنا جانب الإطلاق في كلمة "ويل"، وفسّرناه بما يوجب الحَرَبَ والويل، والمصائب والبلايا، فإننا نجد أنه لم يذكر ما هو حجم العقوبة ولا حدّد نوعها. فهو لم يقل: أنه سيعذّبهم بعذاب جهنم، أو أن لهم مقامع من حديد، أو أنه سيطعمهم من الزقّوم والضريع الخ.. بل ترك الأمر مبهماً فيما يرتبط بما سيواجهونه من مصير..

فقد يقال: إن هذا الإبهام قد قصد به التهويل بالأمر وتعظيمه ليذهب تفكير الإنسان وخياله في تصور هول هذا العذاب أو هذا المصير المشؤوم إلى أي مدى شاء؛ بحيث لا يريد أن يضع لتصوراته أي حدود أو قيود..

وقد يكون سبب هذا الإبهام (إذا فسرنا الويل بالمصائب والبلايا )أنه يريد أن لا يتحدّث عن عذابهم بصورة تفصيلية، فاكتفى بإثبات المصاب العظيم لهم، ولم يحدد كونه في الآخرة أو في الدنيا، ولا غير ذلك من خصوصياته وحالاته. وذلك مسايرة منه للتخيّل الحاصل لهم؛ لأنهم يكذبون بالدين، فإن إبهام العقاب، وكميته، ونوعه، وموقعه: أين، وكيف، وما هي وسائله، ومراحله، يتناسب مع ما يدور في خلدهم، ومع الذهنية التي يعيشونها؛ وذلك ليفهمهم أن تكذيبهم بالدين لا يحل مشكلتهم، ولا ينجيهم من عقابه سبحانه وتعالى.



لماذا ذكر خصوص الصلاة؟

قلنا سابقاً: إن الصلاة هي أشرف، وأسمى، وأفضل أعمال الإنسان. وهي عنوان إسلامه، وهي عمود الدين، وهي التي تربّي وتنمّي، بل هي كالنهر الذي يكون أمام دارك، فتغتسل منه خمس مرات كل يوم؛ فمن يغتسل خمس مرات يومياً من نهر الصلاة، لا يحتمل في حقه أن يكون فيه أثر للتلوّث، الذي إنما يكون في المستنقعات، حيث الراكد القليل، أما النهر الذي يتدفق باستمرار، ويتغيّر باستمرار، فلا مجال لذلك فيه. فإذا اغتسل فيه الإنسان كل يوم خمس مرّات، فكم يكون نظيفاً وطاهراً؟ وإذا كان هذا هو حال الصلاة الواجبة، فكيف إذا زاد عليها النوافل اليومية وغيرها.

فمن يضيّع هذه النعمة والرحمة، ويحوّلها إلى عذاب ونقمة، حتى ليصلّي وإن صلاته لتلعنه، أو أن صلاته تلف في خرقة، ويضرب بها وجهه، نعم، إن ضيع نعمة الصلاة التي هي خير موضوع فهل تراه سيحفظ غيرها من النعم التي لا تدانيها في ذلك؟!



ساهون عن صلاتهم أم في صلاتهم:

ويلاحظ: أنه تعالى قد قال هنا: )الذين هم عن صلاتهم ساهون(ولم يقل.. في صلاتهم.. لأن الإنسان قد يسهو في صلاته: الكبير والصغير، والعالم والجاهل، والمرأة والرجل. لكن هؤلاء يدخلون في صلاتهم قاصدين للتقرب بها، ثم يعرض لهم سهو في بعض أجزائها. إلا أن السهو عن أصل الصلاة حتى كأنه لا يفطن لوجودها من الأساس، رغم أنه يمارس حركاتها؛ يبقى هو الأخطر، والأسوأ والأدهى.



للمصلين: بصيغة اسم الفاعل:

هذا، وقد قال سبحانه: )فويل للمصلين(بصيغة اسم الفاعل، ولم يقل: "للذين يصلّون" بصيغة الفعل الذي يدل على الحدوث والتجدّد، ولعله ليشير إلى أنهم ثابتون في هذا الاتجاه، فإن صلاتهم وإن كانت مستمرة ولكن سهوهم عن الصلاة أيضاً مستمر ـ سهوهم عنها لا سهوهم فيها ـ كما أشرنا إليه.

وقد يحدث للإنسان
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://dawsha-nt.forumarabia.com/
شهد - عسل نحلشهد - عسل نحل

عضوٍسوٍبر
عضوٍسوٍبر

 
انثى
عدد المساهمات : 826

نقاط : 938

اإلتقََـِِيِِيِِم : 2

تاريخ التسجيل : 21/09/2012

العمر : 23
رسالة
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة الماعون   تفسير سورة الماعون Emptyالخميس نوفمبر 01, 2012 3:04 am

شكرا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
ملك الحصرياتملك الحصريات

ש عـضـو مـلـكـي ש
ש عـضـو مـلـكـي ש

 
ذكر
عدد المساهمات : 10160

نقاط : 18757

اإلتقََـِِيِِيِِم : 103

تاريخ التسجيل : 11/01/2013

العمر : 43

الموقع : منتديات ميدو
رسالة
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة الماعون   تفسير سورة الماعون Emptyالثلاثاء يناير 15, 2013 8:06 am

بارك الله فيك وجزاك كل الخير
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://medo.glaxu.org/vb
 

تفسير سورة الماعون

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة 
الردود السريعة :
صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» تفسير سورة ص
» تفسير سورة هود
» تفسير سورة يس
» تفسير سورة عبس
» تفسير سورة ق
الرد على الموضوع

صلاحيات الموضوع
صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى دوشه نت :: الاسلاميات :: الاسلامي العام-