المشيئة المعلقة
عندما بدأتُ عملي وزملائي الجدد كمعاوني خبراء قضائيين بمكتب خبراء المنصورة , أسترعى انتباهنا جميعا أحد زملاء الإدارة , كان نموذجا للخبير القضائي كما يجب أن يكون ,سواء مظهرا أو جوهرا , .
فقد كان طويلا رشيقا , أنيقا وسيما , مثابرا مجتهدا , مثقفا لبقًا , اجتماعيا مرحًا , منضبطٌ في مواعيده , مجتهدٌ فى عمله هو الخبير أحمد عبد السلام.
موسوعي الثقافة السياسية والدينية, عالما بأمور العمل وقوانينه المنظمة له, يحترم الصغير ويقدرُ الكبير ويجله,
وكان يناط به تقديم كل حفلات الخبراء بالوجه البحري , فيوصى الجميع من زملائه ببذل الجهد وتدقيق البحث في القضايا لإيصال الحقوق إلى أصحابها ,فذلك دين ندين به لربنا , وقربى نتقرب بها إليه , فعدل ساعة خيرٌ من عبادة سنة , وشهادة الزور فى الحق من أكبر الكبائر , فكيف بمن يناط به بيان الحق !
وعرفنا من زملاء الإدارة أنه حصل على المركز الأول فى إختبارات الترقى لمعاونى الخبراء على مستوى الجمهورية ,وكوفئ من وزارة العدل بمكافأة مالية سخية , .
لقد كان بإختصار مثلا أعلى لمن يبتغى النجاح فى أعمال الخبرة القضائية , خاصة لزملائه الجدد .
وتصادف أن أحيلت عليه دعوى قضائية مدنية (( منع تعرض )) عن أرض فضاء كان مقام عليها مبنى فيلا قديمة تم هدمها بأرقى أحياء المنصورة (( بحى توريل ) وهو حى أرستقراطى لايسكنه إلا الأثرياء , وترتفع فيه أسعار الأراضى أضعافا مضاعفة عن غيره
وكانت أرض الدعوى مساحتها أربعمائة متر مربع , وسعر المتر المربع فيه ثلاثون ألف جنيه , وإجمالى قيمتها إثنى عشر مليون من الجنيهات .
وقام ببحث الدعوى وأودع فيها تقريره المدعم بالمستندات والأوراق الرسمية وأقوال الشهود . وأوضح فى تقريره وجه الحق فى الدعوى , والذى كان ساطعا سطوع شمس تشرين , وكان يتوجب على القاضى الحكم أخذا بالتقرير المذكور , إلا أنه أعاد الدعوى لمكتب الخبراء لإعادة بحث المأمورية ودون وجود لمذكرات إعتراضات على التقرير من محامىّ الخصوم !
وعقب زميلنا _ أحمد عبد السلام _ أنه يشتم رائحة فساد فى نظر الدعوى بالمحكمة
وبعد إستلام أحمد للدعوى فوجئ بنائب كبير الخبراء يطلب منه تحديد موعد فيها وإبلاغه به لوجود علاقة تربطه بالطرف الخاسر فى التقرير سابق الإيداع بالدعوى !
فأسقط فى يد الخبير أحمد , إذ لاينبغى لأحد كائنا من يكون أن يتدخل فى النزعات المدنية , وأعطاه أحمد موعدا وقام بإخطار الخصوم بموعد مغاير !
وبعد وصول الإخطارات للخصوم عاتبه نائب كبير الخبراء وسأله لما غيرت الموعد ؟!
فقال أحمد , أنه أراد أن يتأكد أن يكون الموعد المحدد كافى لوصول الإخطارات للخصوم , فإضطر لتحديد موعد مغاير يكون كافيا للإطمئنان لذلك .
وعند مباشرة أحمد للدعوى , فوجئ أن محامى السيدة المالكة للأرض وصاحبة الحق فيها يتعجب هو الآخر من إعادة الدعوى للخبير , رغم بيان التقرير لوجه الحق فى القضية والذى لايتطرق إليه شك أو ريبة !
وإذا بنائب كبير الخبراء يطلب من أحمد تحديد موعد جديد يكون طويلا , فنزل أحمد على رغبته وحدد موعدا لاحق بعد شهر !
وقبل موعد الجلسة فى ذلك اليوم فوجئ أيضا بذات الرجل ( رئيسه ) يطلب منه تحديد موعد جديد يكون طويلا ! وتعلل نائب كبير الخبراء بعلل وأعذار واهية من تأكده من وجود مستندات لدى معارفه يحتاجون وقتا لإستخراجها !
وحدد أحمد موعدا جديدا على مضض مع يقينه بكذب تلك العلل
ثم أنهى المناقشة فى الدعوى وأنهى مأموريته كخبير فيها وقام بوضع تقريره الثانى , والذى جاء متفقا مع تقريره الأول .
كان موضوع الدعوى يدور حول سيدة إشترت الأرض المتنازع عليها بعقد بيع إبتدائى
وتحصلت على حكم قضائى ضد البائع لها بخصوص هذا العقد , ووضعت يدها على الأرض من تاريخ الشراء , وإستخرجت كشف تحديد مساحى عنها , بل إنها أقامت سور حولها حُرر بشأنه مخالفة بناء بدون ترخيص لها من رئاسة الحى التابعة له الارض
وفى تلك الفترة تم تعويم الجنيه المصرى فتضاعفت قيمة الأرض , فحاول البائع أن يحصل منها على بعض الأموال , فلما أبت قام بتحرير عقد بيع لمن ينازعها فى تلك الأرض , بغرض إبتزاز تلك السيدة , والتى وقفت فى وجه البائع معدوم الضمير والمشترى المزيف وقامت برفع دعواها ضدهما بطلب الحكم بعدم تعرضهما لها فى تلك المساحة
وعند مراجعة التقرير صعق أحمد من مطالبة نائب كبير الخبراء منه أن يقوم بتغيير مضمون التقرير على خلاف الحقيقة لمجاملة البائع والمشترى الشيطانين على حساب صاحبة الحق
رفض أحمد تغيير تقريره , وقال بحده لرئيسة ( لا مجاملة فى الحقوق )
فأسرها رئيسه فى نفسه , ويشاء الله أن يرقى نائب كبير الخبراء إلى كبير خبراء الإدارة ,
وكبير الخبراء هو المخول له تشكيل الأقسام وترقيه رؤساء الأقسام والوظائف الإشرافية
وتخلو رئاسة أحد الأقسام للخبراء بالإدارة , وكان أحمد هو صاحب الحق والدور فى رئاسة هذا القسم
إلا أن كبير الخبراء يأمر بضم هذا القسم الشاغر إلى أقدم رئيس قسم إمعانا فى الإنتقام من أحمد .
وطرق أحمد كل الأبواب التى يمكن أن تطرق فى رئاسة قطاع الخبراء ووزارة العدل
فكان رد الجميع أن تشكيل الأقسام ورؤسائها منوط بكبير الخبراء
وعرضوا على أحمد أن ينتقل رئيس قسم بإدارة طنطا أو كفر الشيخ !
إلا أن أحمد رفض , فكيف يترك مدينته ومكتبها ويتكبد السفر اليومى أو شبه اليومى
لمحافظة أخرى , وهو صاحب حق فى الترقية وقسمة موجود شاغرا بلا رئيس قسم !
كان أحمد يقول إن رئاسته للقسم مشيئة معلقة ؟!
فنستفسر منه فيقول
إنها مشيئة ربانية تهيئت أسبابها وأنيطت برقبة رجل ظالم مجحف , وليحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين
وكل مشيئة ربانية تتهيأ أسبابها الأرضية وتتعلق بتوقيع أو قرار أو أمر إدارى من صاحب قرار هى مشيئة معلقة , يأثم المتقاعس عن تنفيذها
ويكون ظالما والظلم ظلمات يوم القيامة
فأولما أمرنا به العدل (( قل أمر ربى بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ...))
(( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى ...))
ثم يتنهد أحمد ويقول
(( وما تشاءون إلا أن يشاء الله ))
وكان أحمد كلما حادثه أحد الزملاء عن رئاسة القسم يقول (( فصبر جميل ))
وبعد مرور عام يخرج كبير الخبراء على المعاش , ويكون أول قرارات كبير الخبراء الجديد إسناد رئاسة القسم الشاغر إلى أحمد.
ويقيم أحمد وليمة كبيرة للقاصى والدانى بالإدارة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط بمدينة ومصيف رأس البر
وكان كلما لاطفه أحدنا عن المشيئة المعلقة يقول(( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا ))