كيف نقضي على آفة نقل الكلام؟
نقلُ الكلام آفةٌ من آفات اللسان، قد تورد صاحبها المهالك إن لم ينتبه ويتق الله ربه فيما يقول، وإذا لم يُراعِ حرمة الناس وخصوصياتهم، بالإضافة إلى التنافر والتخاصم الذي قد يحدث بين الأقران.
والمقصود بالكلام المنقول هو الكلام الذي يسيء إلى الآخرين، أو نقل أخبارهم وخصوصياتهم إلى غيرهم دون استئذانهم مما يكشف سترهم ويفضح أمورهم، وغالبًا ما يكون الدافع لها الحقد أو الحسد أو الغيرة من الآخرين.
ومن هنا كان الحديث "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام" (رواه أحمد وأبو داود وسنده حسن).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه: لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته" (رواه البخاري ومسلم).
فإفشاء سر الآخرين، أو الكذب عليهم أحيانًا له عواقبه الخطيرة على الصف المسلم.
وقد يكون نقل الكلام ضرورة، وغاية في الأهمية في بعض الأحيان غير أن ذلك لا يجعلنا نترك الأمر على عواهنه فيتحدث القاصي والداني، وتُذاع أخبار الآخرين دون حرمة أو مراعاة لنفسياتهم، بل لا بد من التضييق مع الحذر والتشديد عند تناول أخبار الآخرين والتحدث بلسانهم.
فمما لا شك فيه أن الصمت أفضل في كثيرٍ من الأحيان مما لو خاض الإنسان في كلام لا يعنيه.. أو استرسل في كلام لا طائل منه خاصة إذا كان هذا الكلام يتعلق بالآخرين.. فيؤدي ذلك في نهاية المطاف إلى معصية يصيبها أو ذنب يقترفه يقول تعالى ﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾(النساء: الآية 114)، فالخوض في أعراض الناس والتحدث عنهم أمر مرفوض في الصف المسلم والجماعة المسلمة الذين يصفهم القرآن بأنهم كالبنيان المرصوص يقول تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ ﴾ (الصف:4) وقد حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من كثرة الكلام إلا في الخير فقال صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت" والعبد الفطن هو الذي يسمع كثيرًا ولا يتكلم إلا قليلاً.. فإذا تكلم غنم وإذا سكت سلم.. فمن تكلم كثيرًا كثر سقطه ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه وتبقى الرسالة الخالدة "من صمت نجا"، فالمتحدث كثيرًا قلما يقدر أن يمسك لسانه.
ولعل من أخطر الأمور والتي نأخذها ببساطة رغم خطرها العظيم وما تسببه من متاعب وهموم نفسية جسيمة هو تناقل الكلام والتحدث عن الغير بدون أي ضوابط.. فتساق الاتهامات دون تثبتٍ أو سياق الأدلة.. فتكثر القلاقل.. وتوغل الصدور وتقل الروابط بين الناس.. وتُقطع الأرحام الموصولة.. وتُفصم عُرى المحبة بين الأقران. فإذا قيل إن نقل الكلام ضرورة ملحة وتقتضيه المصلحة العامة في بعض الأحيان وسلمنا بذلك فلا بد من الوقوف عند ثوابت وخطوط حمراء لا نتعداها قبل الخوض واتهام الآخرين.
الأعراض:
1- الترخص المبالغ فيه في الحديث عن الآخرين.
2- التملق إلى الآخرين والتقرب منهم على حساب الغير بذكر مساوئهم أو أخبارهم.
3- عدم التحدث عن محاسن الآخرين، والاكتفاء بذكر المساوئ.
4- الاحتقار والاستهانة بالآخرين، ومن ثم الاستهزاء بهم.
5- إفشاء الأسرار المؤتمن عليها من قِبَل الآخرين.
العلاج:
وذلك من خلال الخاطرة والكلمة والتوجيه والتذكرة، وبيان خطورة الأمر على الفرد والجماعة، مع إبراز الأحاديث والآيات التي نهت عن مثل هذا السلوك السيئ والتي يكون لها تأثير نفسي أو رادع داخلي لاجتناب مثل هذا السلوك.
ففي الحديث "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه" (رواه أحمد والترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي حديث حسن صحيح)، وفي حديث معاذ في آخره "كف عليك هذا" فقلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذنا بما نتكلم به؟ قال: "ثقلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم- أو قال: على مناخرهم-، إلا حصائد ألسنتهم" (أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت بسند حسن).
فماذا لو تناقل إلينا حديث أن شخصًا ما وهو أخ عزيز علينا.. أفشى لنا سرًّا أو أذاع لنا خبرًا أو أضاع لنا أمانة.. أو خان لنا عرضًا.. أو حتى ذكرنا بما نكره.. فبالتأكيد أن نفوسنا ستحمل له بغضًا ولحديثه كرهًا وقد تتطور الأمور إلى حد الخصام إن لم يكن الاقتتال.
العلاج بالموقف:
وكما قلنا سابقًا فإن التهيئة النفسية وحدها لا تكفي، واستجاشة العواطف تجاه نبذ هذا السلوك السيئ أمرٌ جيدٌ، إلا أنه يبقى مُعلق الأثر قليل الفائدة حتى تأتي المواقف العملية لتؤكد على معناه أو أن تؤصل السلوك وتجعله مُبررًا لدى سالكه.
فماذا نفعل عندما يتناقل الخبر إلينا، وكيف نتعامل مع ناقله ومصدره؟
ضوابط التعامل مع الكلمة:
هذه الضوابط لا بد منها إذا كنا نريد ونبتغي بقولنا وجه الله تعالى حتى لا نجد أنفسنا قد ارتكبنا منكرًا أكبر.. أو أحدثنا فتنة بدون قصد. فلقد كان لتناقل الحدث في حادثة الإفك وكثرة الكلام فيه أثره البالغ على رسول الله صلى الله عليه وسلم والسيدة عائشة أم المؤمنين والصحابة رضوان الله عليهم..
فكيف نتعامل أخي الـكريم مع الـكلمة إذا أشيعت وتناقلتها الألسن؟.
فالظن أكذب الحديث، ولو أنا فرضنا سوء الظن في كل أقوالنا لتخاصمنا جميعًا، ولأُغرت صدورنا، فاستجابتنا لإذاعة الأخبار وترويجها، وتصديقها لأول وهلة، من شأنه أن ينبت الضغينة في القلوب وخاصة إذا ثبت بعد ذلك براءة من اتهمناه، فالسيدة عائشة وهي الطاهرة العفيفة بعدما تكلم من تكلم وتناقلت الألسن ما تناقلته، جاء القرآن ليضع حدًّا لهذه الفوضى مُبرأً ساحتها الشريفة وفاضحًا أهل النفاق يقول تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ (النور: من الآية 11) ولعل من أخطر هذه الأضرار هي الأضرار النفسية التي يقع فيها من نتهمهم وهم أبرياء.
فإذا أذيع الخبر وانتشر بين العوام وتناولت الألسن الأبرياء بلا ترخص ولا مبالاة، ثم تبين بعد ذلك بالأدلة القاطعة والبراهين الواضحة أن ساحتهم نظيفة مما نُسب إليهم من أقوال لم ينطقوا بها، أو أعمال لم يفعلوها لزم علينا أن نُعلن أمام الجميع براءتهم ونظافتهم مما نُسب إليهم وهذا من حقهم بعدما تناول حديثهم القاصي والداني دون أدنى تحرج. فها هو القرآن الكريم يتنزل من فوق سبع سماوات ليُعلن براءة الأتقياء وطهارة المتهمين ظلمًا وعدوانًا فيُبرأ ساحة السيدة عائشة الطاهرة العفيفة مما نُسب إليها. فلو أنَّـا تركنا للآخرين أن يتناولوا أعراض الناس بهذه الخفة واللامبالاة لفسدت الأرض ولكانت أعراض الناس مشاعًا يتناولونها أنَّى شاءوا فيجد الشيطان مكانًا له وسط الصف فيحرك الضغينة في القلوب ويعمل على إيقاظ الفتنة النائمة. لهذا نجد أن القرآن الكريم يشدد في عقوبة القاذف فيجعلها قريبة من عقوبة الزنا (ثمانين جلدة مع إسقاط الشهادة) صيانةً للأعراض وحمايةً لأصحابها من الآلام النفسية الجسيمة التي تلحق بهم يقول الأستاذ سيد: [إن ترك الألسنة تُلقِي التهم على المحصنات بدون دليل قاطع يترك المجال فسيحًا لكل من شاء أن يقذف بريئةً أو بريئًا بتلك التهمة النكراء ثم يمضي آمنًا فتصبح الجماعة وتُمسي وإذا أعراضها مُجرحة وسمعتها ملوثة وإذا كل فرد فيها مُتهم أو مهدد بالاتهام] وبعد انتهاء الأمر ومعرفة البريء ببراءته والأخذ على يد المتسبب وعقابه يأتي التحذير من العودة إلى مثل ذلك يقول تعالى ﴿يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ (النور:17).
فالفرد المترخص في الكلام يُعطي فرصةً للشيطان الذي يتلمس سقطاته وعثرات لسانه فيجد الشيطان في هذه السقطة وتلك العثرة ضالته في إيقاع العداوة والبغضاء بين المرء وأخيه فالكلمة الطيبة وقول التي هي أحسن تسد هذه الثغرات وتقطع عليه الطرق وتحفظ حرمة الأخوة إيمانًا بقوله تعالى ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ﴾ (الإسراء:35).
وأخيرًا، يجب مراعاة الآتي عند تعاملنا مع الكلمة سواء بالسماع أو النقل عن الآخرين:
أولاً: عرض الأمر على القلب واستفتاء الضمير.
ثانيًا: التثبت بالدليل والبينة.
ثالثًا: تقديم الظن الحسن قبل الظن السيئ في الأمور التي تحتمل وجهين.
رابعًا: الاستشارة قبل المبادرة بالاتهام.
خامسًا: استحضار الأضرار والعواقب الناتجة عن تناقل الكلام عن الآخرين.
سادسًا: عدم أخذ الأمور بخفة واستهتار.
سابعًا: إعلان براءة ساحة المتهم البريء.
ثامنًَا: الأخذ على أيدي كل من تناول الخبر ونشره.
تاسعًا: التحذير من العودة إلى مثل هذا الأمر.