ابن البيطار" خبير في علم النباتات والصيدلة، وكتب موسوعة عن إعداد وتركيب الدواء والغذاء، ذكر "ابن البيطار" 1400 نوع من النباتات في أسبانيا وشمال إفريقيا وسوريا، يمكن استخدامها لأهداف طبية، وذكر أيضا اسم 200 نوع من النباتات التي لم يتعرف إليها طبيب قبله،كما ذكر هذا العالم طريقة تركيب الدواء لبعض الأمراض، والجرعة المطلوب تناولها للعلاج.
واقعاً، اختبر هذا العالم على نفسه الأدوية التي صنعها للتأكد من فعاليتها.
تعتبر هذه الموسوعة التصنيفية القاعدة الأساسية لعلم النبات الحديث ومرجعا لدراسة مفردات الأدوية والأغذية، وقد جرى ترجمتها إلى اللغتين الفرنسية والانجليزية.
حتى أيامنا هذه لا تزال هذه الموسوعة تطبع باللغة العربية وتجذب الاهتمام، وهي تُدرَّس في عدة جامعات، لكن ما مدى تأثير محتويات وأبحاث موسوعة "ابن البيطار" في تطوير المعرفة وإنتاج العقاقير من النباتات؟
إن محاولة شرح هذا التأثير قد تولاها ثلاثة اختصاصيين من ثلاث قارات كانوا على مطلعين على انجازات "ابن البيطار"، في أوروبا، مُنحت بروفسورة من جامعة أشبيلية منحة خاصة لإجراء بحث معمق عن هذه الموسوعة.
البروفسورة الدكتورة " آنا ماريا كابو جونزاليس" خبيرة وباحثة في الحضارة العربية الإسلامية، أمضت معظم أوقاتها في مكتبات المغرب وتونس لجمع معلومات عن هذا الحقل الخاص من حقول المعرفة الإسلامية.
خلال أعوام البحث تعرفت على أعمال "ابن البيطار" عن كثب، فنشرت كتاباً يستعرض موسوعة هذا الرجل العالم.
كانت موسوعة "ابن البيطار" واحدة من أفضل الموسوعات في تاريخ النبات والعقاقير خلال العصور الوسطى.
في هذه الأثناء ، تناولت الكيميائية الإفريقية الدكتورة البروفسورة "زبيدة شرُّوف" من جامعة الملك محمد الخامس، نموذجاً من إحدى النباتات التي ورد ذكرها في موسوعة "ابن البيطار" لإجراء اختبار عليها في مختبرها.
كانت البروفسورة "شروف" في مقدمة مؤسسي منظمة "ابن البيطار" لحماية النباتات التي يمكن استخدامها في صناعة الأدوية من الانقراض، وبشكل خاص تلك النباتات الموجودة في المغرب.
لقد استحضرت همة وعزم "ابن البيطار" في عملها، تدير الدكتورة "زبيدة " اختباراً كيميائياً عن الزيت المستخرج من شجرة "الأرْجَان"، التي تُعرف في المغرب باسم أشجار الخشب الحديدي، والتي لم تُذكر إلاَّ في موسوعة "ابن البيطار".
تابعت الدكتورة "زبيدة " عمل "ابن البيطار" لتروج للمنتجات التي يمكن الحصول عليها من هذه الشجرة.
في قارة آسيا، يُكمل البروفسور "محمد نور الدين لاجيس" عمل "ابن البيطار"، وهو متخصص في الكيمياء الطبيعية من معهد العلوم الأحيائية في جامعة "بوترا" في ماليزيا.
وكجزء من شبكة منظمة الأونسكو المحلية لدراسة كيمياء المنتجات الطبيعية، تلقى دعوة لعرض أبحاثه فيما وراء البحار، كما استقبل أيضًا زواراً من علماء كيمياء أجانب كان بينهم البروفسور "إميريتوس" والدكتور "فيغور أوردن" من جامعة "كاراتشي" في باكستان.
اختار العلماء هذه النبتة من الغابة المطرية لإجراء الاختبارات عليها في مختبرات جامعة "بوترا"، أطلق على هذا المختبر اسم "ابن البيطار"
أكثر من خمسين في المئة بل ستين في المئة تقريباً من الأدوية المتوفرة في الأسواق مشتقة من نباتات أو مصنوعة من مواد جذورها نباتية، وهكذا تبقى الطبيعة التي خلقها الله تعالى مصدراً أساسيا نحتاج إليه لاشتقاق مادة كيميائية جديدة لها تركيبة جديدة وتفاعل كيميائي جديد.
أصبح الآن علم النباتات الذي كان "ابن البيطار" رائده، منطلقا لعلم الأدوية الحديث.
ساعدت خلفية عائلة "ابن البيطار" وبيئته على صقل شخصيته وخُلُقه حتى قبل أن يظهر كمتخصص في علم النباتات والأدوية، هذا الأمر شرحته البروفسورة "آنا ماريا كابو".
الاسم الكامل لـ"ابن البيطار" هو ضياء الدين أبو محمد عبد الله "ابن البيطار" المالقي، وكلمة مالقي أضيفت إلى اسمه لأنه من قرية "بينالمدينا" التي تقع في مدينة مالقة.
وُلد "ابن البيطار" في القرن الثاني عشر في عام 1197 للميلاد، وكان والده الطبيب البيطري مقدرًا اهتمامات ولده بالنباتات والعلوم.
لقب "ابن البيطار" مشتق من كلمة عربية تعني "ابن البيطري"، ولأن والده كان طبيباً بيطرياً ماهراً، اشتهر باسم "ابن البيطار"، لا باسمه الحقيقي: عبد الله.
في صغره أحب قضاء وقته في الغابة، فترسخ في نفسه منذ الصغر ، حب الطبيعة وازداد تقديره لها، إن مراقبة "ابن البيطار" للتنوع النباتي والحيواني ولَّدت في نفسه توقا ً لتعزيز معرفته في علم النباتات، فكانت الغابة المجاورة لـ"بينالمدينا" بمثابة أول مدرسة له في علم النبات.
كانت "بينالمدينا" قرية أندلسية مسلمة في الأصل، غنية بالغابات ومنتجات البحر الأبيض المتوسط، لم يغير التطور كثيراً من المظهر الخارجي لهذه القرية القديمة، هنا أمضى "ابن البيطار" طفولته قبل أن يبدأ رحلة بحثه عن المعرفة.
أقام "ابن البيطار" في " أشبيلية" ليتعرف على التفاصيل الدقيقة للنباتات من خبراء هذا الحقل، ومن بين الشخصيات الهامة التي تعلَّم على يدها: عبد الله بن صالح "أبو حجاج" وأبو عبَّاس النباتي.
كان ابن رومية وأبو عباس وأبو حجاج، من بين العلماء المسلمين الذين علَّموه، كما تلقَّى "ابن البيطار" أيضا دروساً تحت إشراف أساتذة يونانيين من باليرمو في صقلية، ومن أساتذة من البندقية في ايطاليا لكي يوسع معرفته في علم النباتات والأدوية.
لكن الأهم تبقى دراسته على يد عالم نباتي يوناني شهير يُدعى "ديسكوريدس" وهو مؤلف كتاب "دي ماتيريال ميديكا" أي "المواد الطبية "، وكان كتاباً مؤثراً في علم النباتات والأدوية في القرن الأول، تعلم "ابن البيطار" اللغة اليونانية ليتمكن من دراسة كتاب "ديسكوريدس" بعمق.
خلال العصور الأوروبية المظلمة، كان تطور علم النباتات والأدوية مثيراً للدهشة، ففي تلك الحقبة تُرجم كتاب "المواد الطبية" إلى اللغة العربية، وفي النص المترجم إلى العربية ظهر رسم "ديسكوريدس" وهو يرتدي ملابس إسلامية، يُعتبر "ابن البيطار" أحد العلماء الذي نقلوا المعرفة من حقل علم النباتات اليوناني.
كان مصدر معلومات "ابن البيطار" في أبحاثه مستمداً من علماء يونانيين وهنود وصينيين وعرب.
دوَّن "ابن البيطار" آراء عشرين عالما يونانيا، كان من بينهم "ديسكوريدس"، كما دوَّن أيضًا آراء علماء مسلمين كالرازي وابن سينا.
في الرابعة والعشرين من عمره غادر "ابن البيطار" اسبانيا لدراسة النباتات. خلال رحلته من شواطئ إفريقيا في الشمال وصولاً إلى مصر، دوَّن كل اكتشافاته ورتَّب أسماء النباتات بحسب الحروف الأبجدية.
فاستخدم حرف الصاد، على سبيل المثال، لأسماء النباتات التي تبدأ بهذا الحرف، وهكذا، ساعد هذا التصنيف الأبجدي على تحويل موسوعته إلى مرجع وأصبحت نموذجاً لأسلوب الكتابة الأكاديمية حتى أيامنا هذه.
طبَّق البروفسور "نور الدين لاجيس" نظرية "ابن البيطار" فاستخدمها في جمع المعلومات عن نباتاته قبل إحضارها إلى المختبر.
ما أتى به "ابن البيطار" أصبح أساسا أو منهجاً لكيفية إجراء البحث العلمي.
بالإضافة إلى ذلك، فتح "ابن البيطار" الأبواب لعلماء آخرين لمناقشة أعماله.
لقد تقبل أيضًا النقد من علماء آخرين، وهذا مفهوم هام في العلوم والإسلام لأننا نحتاج إلى النقد لتطوير أنفسنا.
زرع "ابن البيطار" بذور هذه الفضيلة في المغرب، تتوجَّه البروفسورة "زبيدة شرُّوف" إلى مزرعة "أرجان"، وهي إحدى النباتات التي ذكرها "ابن البيطار" في موسوعته.
دوَّن "ابن البيطار" أسماء النباتات التي تحظى بقيمة طبية بعد أن أجرى عليها أبحاثاً في مختبره وراقب استخدام سكان القرية لهذه النباتات.
ذكر "ابن البيطار" شجرة الأرجان في موسوعته أثناء إجرائه بحثاً في المغرب، فوضعها في قائمة الحرف "ألف" في الفهرس.
توجد شجرة الأرجان في المغرب، وقد أطلقت القبائل البربرية عليها هذا الاسم، هذه الشجرة ذات فروع شائكة وثمارها تشبه ثمار الَّلوز بحسب الأوصاف التي كتبها "ابن البيطار"، كما يمكن الحصول على معلومات عنها في النسخة الفرنسية لموسوعته.
بناء للمعلومات التي قدَّمها "ابن البيطار" تمكنت البروفسورة "زبيدة" من إقناع جامعتها بتخصيص غابة خاصة تكون محمية لأشجار الأرجان.
لقد ساعد ذلك "زبيدة" على متابعة بحثها في كتابات "ابن البيطار" التي تحدثت عن منافع الزيت المستخرج من بذور هذه الأشجار.
هذه ثمرة الأرجان، وقد أكلت الحيوانات محتوياتها، داخل هذه الثمرة توجد بذرة يُستخرج منها الزيت الذي يستعمل كدواء متوارث، و يستخدم في مستحضرات التجميل، وفي الطهي أيضًا.
كما يمكن استخدام زيت الأرجان لمعالجة أمراض عديدة، ومشاكل الجلد كالبثور وندبات أمراض الجدري والأمراض المتعلقة بالدورة الدموية والرئتين وغيرها من الأمراض.
بالإضافة إلى شرح أوصاف شجرة الأرجان راقب "ابن البيطار" العملية التقليدية لإنتاج زيت الأرجان في المناطق الداخلية من المغرب على أيدي نساء البربر، تكسر الثمرة وتُفتح للحصول على البذور، بعد أن تجف البذور تُسْحن جيداً، عند هذه المرحلة، يكون زيت الأرجان ممزوجا مع البذور المسحونة.
شاهد "ابن البيطار" المرحلة التالية التي يجري فيها فصل الزيت عن البذور المسحونة بعصر المزيج يدوياً، يستخدم هذا الزيت للطهي ولأهداف طبية، أما الفضلات فتستخدم كعلف للحيوان، ولقد دوَّن "ابن البيطار" هذه العملية بشكل كامل.
اليوم يخضع زيت الأرجان إلى اختبارين في مختبرين، تجري الدكتورة "زبيدة" اختباراتها لتقييم نسبة مقاومة زيت الأرجان للتأكسد و لاكتشاف نسبة السموم فيه، يُجرى الاختبار الأول لإثبات أن زيت الأرجان يمكن استخدامه لمعالجة الجلد ومشاكل شرايين القلب، أما الاختبار الثاني فهو لإثبات أن زيت الأرجان غير سام.
في هذا الاختبار راقبنا عملية مقاومة زيت الأرجان للتأكسد واكتشفنا أنه يقاوم التأكسد بنسبة عالية.
هذا التفاعل غير القابل للتصبّن في زيت الأرجان يُظهر امتلاكه لقدرة اكبر على مقاومة التأكسد مقارنة بفيتامين "ألف" وهذا يظهر بوضوح سبب استخدام زيت الأرجان لمعالجة مشاكل الجلد وتلك المتعلقة بالدورة الدموية والرئتين. كما اكتشفنا وجود تفاعل أسيدي قوي شبيه بتفاعل حمض الفانيليا، والسيرنجيك فيروليك واليتروسول وكلها ً مفيدة للجسم.
كان اختبار زيت الأرجان، كمضاد للتأكسد ، مشجعاً جداً، أما نسبة السمِّية في هذا الزيت فقد شرحته الدكتورة "زبيدة".
يجب أن نبرهن بأن زيت الأرجان غير سام حتى لو استخدم لوقت طويل، لهذا يجب أن نجري اختباراً لإثبات ذلك.
إن البحث الذي أجرته الدكتورة "زبيدة"، أقنعها بالترويج للمنتجات المشتقة من زيت الأرجان، لفائدته ولأنه بالتالي سوف يوسع أسباب الرزق لنساء البربر في المغرب، تحقق هذا النجاح من خلال كتابات "ابن البيطار"، وترى الدكتورة "زبيدة" بأنه بذلك دون في الحقل الطبي، اسم نباتات التي لا تقدَّر بثمن.
بينما يواصل الدكتور "نور الدين لاجيس" في ماليزيا اعتماد طريقة "ابن البيطار" في مراقبة الحقائق وتدوينها.
إن أسلوب بحثه لا يزال معتمداً حتى أيامنا هذه، حيث يواصل عدد من علماء النبات واختصاصيي الأدوية العمل بنفس الطريقة.
في أسبانيا تُظهر أبحاث الدكتورة "آنا ماريا كابو" بأن "ابن البيطار" قد مات مسموماً في سوريا وهو في التاسعة والأربعين من عمره أثناء اختباره لنبتة حاول صنع دواء منها.
"ابن البيطار" كالشمعة، أحرق نفسه ليضيء لنا حقل علم النباتات والأدوية الموجودة بين أيدينا اليوم.
كانت نهاية حياته غريبة، حيث كانت أبحاثه سبباً لوفاته، وبذلك غادرنا مصطحباً معه قيم العالِمِ الحقيقي، ولكن حتى أيامنا هذه لا نزال نشعر بوجوده، خاصة في قريته "بينا لمدينا".
مع الوقت تغيرت البيئة ولكن على الرغم من أن معظم السكان ليسوا مسلمين، إلا أنهم لا زالوا يذكرون مساهمات "ابن البيطار".
في وسط القرية توجد مدرسة تحمل اسمه، وفي الطرف الآخر من "بينا لمدينا" ينتصب تمثال له.
إن مساهمة "ابن البيطار" في حقلي علم النبات والأدوية تعتبر مصدر فخر واعتزاز لأبناء "بينا لمدينا" على الرغم من اختلاف انتماءاتهم الدينية.
أما بالنسبة إلى المسلمين فإن عظمة "ابن البيطار" ليست مجرد انعكاس للماضي، بل تشكل تحدياً للأجيال الشابة حتى تُخرِّج علماء آخرين يسيرون على خطاه.