الحمد لله الذي خلق كلَّ شيء فقدَّره تقديرًا،وأتْقن ما صَنَعَ حكمةً وتدبيرًا، أحمده- سبحانه- وأشكره، والشكر له من نعمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الممتَثِلين لأوامره والمجتَنِبين لنواهيه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعدُ:
فيا عبادَ الله، اتَّقوا الله- تعالى- وتفكَّروا في حكم الله وآياته، وما له- سبحانه- من آياتٍ في تَعاقُب الليالي والأيام والشهور والأعوام؛ فإنَّ الليالي والأيام خزائن يُودِع العاملون فيها ما عملوا من خيرٍ وشر، وهي مَراحِل الأعمار، وقد جعل الليل سكنًا وراحة، والنهار نشورًا وطلبًا للمعاش، وجعل السنَةَ اثني عشر شهرًا منها أربعة حرم: ثلاثة متوالية آخرها هذا الشهر المحرم، وهو مبدأ التاريخ الهجري، والرابع منها رجب مفرد.
وقد جمع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- الناس، فاستشارهم من أين يبدأ التاريخ، فقال بعضهم: من مَولِد النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- وقال بعضهم: من بعثته، وقال بعضهم: من هِجرته، وقال بعضهم: من وفاته- صلوات الله وسلامُه عليه- ولكنَّ عمر- رضي الله عنه- رجَّح أنْ يبدأ من التاريخ من الهجرة؛ لأنَّ الله فرق بها بين الحق والباطل، ثم تَشاوَر الصحابة- رضوان الله عليهم- في أيِّ شهرٍ تبدأ السنة فاتَّفقوا على أن تكون بداية السنة من (محرَّم).
فها أنتم في أوَّل السنة، وفي الشهر المحرم، وقد أعزَّ الله الإسلام ونصر المسلمين بتمسُّكهم بتعاليم دِينهم، والمحافظة على تُراثه، والسَّيْر على نهج حُلَفاء نبيه.
فتذكَّروا يا عبادَ الله ما حصل لنبيكم- صلوات الله وسلامُه عليه- من دعوة صادقة، وجهاد مخلص، وما قام به صَحابتُه من مُؤازَرةٍ له، ومجاهدة أعدائه، وما نال نبيَّنا- صلوات الله وسلامُه عليه- من إيذاء، ومعارضة لدعوته، وما حصل لصحابته في مبدأ الدعوة من إيذاءٍ وتعذيب، وقد صبروا واحتسبوا ذلك في سبيل الله؛ فنصرهم الله على أعداء دِينه، وظهر الحق وزهق الباطل، إنَّ الباطل كان زهوقًا.
فيا عبادَ الله:
تمسَّكوا بتعاليم دينكم، وتأدَّبوا بآدابه، وتخلَّقوا بأخلاق سلفكم الصالح، تذكَّروا عزَّهم ومجدهم، وما نالَهم من أذًى في الكفاح عن دِينهم، ومُناصَرة نبيِّهم، واعلموا أنَّه لن يصلح آخِر هذه الأمَّة إلا ما أصلح أولها، فدِين الإسلام وتعاليمه هي الصالحة لكلِّ زمان ومكان، والمُصلِحة لكلِّ البشرية، والمتَّفقة مع فطرتها السليمة؛ ففي الدين العزَّة والكرامة، والعلو والرفعة، والراحة والاطمئنان، والسعادة في الدنيا والآخِرة، فلا تُفرِّطوا يا عبادَ الله في تعاليم دِينكم، واحذروا تقليدَ أعدائكم وأعداء دِينكم، فإنَّكم في غنيمةٍ بدينكم وتعاليمه عن أعدائكم وأعداء دِينكم، تآمَروا بالمعروف وتناهَوْا عن المنكر، وكونوا يدًا واحدةً في الحقِّ مع ولاة أموركم، ولا يخدعنَّكم الشيطان بزخرف القول، وتحسين باطل الأعداء، فإنَّ الحقَّ يعلو والباطل يضمحلُّ، ولن يدوم الباطلُ مهما صالَ وجالَ فمآله للخذلان.
فانتَبِهوا يا عبادَ الله ولا تغترُّوا بزخارف الدنيا ولذَّاتها، فإنها خدَّاعة وظلٌّ زائل لا يدومُ، وغدًا تجدون ما عَمِلتُم من خير وشر محفوظًا لكم وعليكم في الدار الآخرة، فما هذه الدار إلا مزرعة يسعد بها أقوام ويشقى بها آخَرون، ولا عُذرَ لأحدٍ؛ فالطريق واضح، فليختَرِ العبدُ لنفسه الصراط المستقيم الموصل لدار السعادة، طريق الحق، فما بعد الحق إلا الضلال.
اللهم اهدِنا الصراطَ المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، اللهم إنَّا نسألك الثباتَ على دِينك، والاستقامة على ما يُرضِيك، اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
قال الله العظيم: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } [الحشر: 18-20].
بارَك الله لي ولكم في القُرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وتابَ عليَّ وعليكم إنَّه هو التوَّاب الرحيم.
أقول هذا وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفِروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
واعلموا- رحمكم الله- أنَّه ينبغي للعبد أنْ يفكر ويتَّعظ ويعمل، ولا يكون همُّه ملء بطنه وإشباع رغبته من شهوات ولذَّات، والحُصول على الأموال الطائلة التي قد تكون وَبالًا عليه، فاذكروا ما حصل لنبيِّنا- صلوات الله وسلامُه عليه- في مبدأ الدعوة، وما ناله من قومه، وما نال أصحابه الذين بادَرُوا بالتصديق وقبول دعوته، حتى أذن الله له بالهجرة إلى المدينة، بعد أنْ قيَّض الله لهذه الدعوة مَن ينصرها ويذبُّ عنها، فخرج نبينا- صلَّى الله عليه وسلَّم- هو وصاحبه أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- فاختبآ في الغار؛ لأنَّ قومهما الذين لم يُصدِّقوا، ولم ينقادوا سوف يبحثون عنهما، وقد صار ذلك حتى أنهم وقفوا على الغار الذي كان نبينا- صلوات الله وسلامُه عليه- مختبئًا فيه هو وصاحبه، ولكنَّ الله حفظهما، وأعمى أعيُن المشركين عنهما: { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [التوبة: 40].
نعم؛ الله مع مَن ينصره، وبعد أنْ كفَّ الطلب سارَا حتى وصلا المدينة، وقد استقبلهما أهلها- ممَّن أراد الله لهم السعادة- بالفرح والسرور والنصر والتأييد.
وقد كان ما كان من كفار قريش من غزواتٍ لإطفاء الحق، ولكنَّ الله نصر جنده، وأعلى كلمته، وعاد نبينا- صلوات الله وسلامُه عليه- وأصحابه إلى مكة فاتحين منتصرين، وانتصر الإسلام ودخل الناس في دِين الله أفواجًا، وهكذا يعلو الحق ويضمحلُّ الباطل، ومع هذا الفتح والنصر يقول نبينا- صلوات الله وسلامُه عليه- لقومه أهل مكة: «اذهبوا فأنتم الطُّلَقاء»[1].
فهكذا الإسلام؛ عزَّة وتسامح، ونحن- ولله الحمد- في هذه الأيام نسمع كثيرًا من انتصارات المسلمين، وقمع أعداء الدين، فما أحرى بنا وما أحوجنا إلى التفكُّر وتذَكُّر ما كان عليه نبينا- صلوات الله وسلامُه عليه- وأصحابه والاقتداء بهم، نرجو الله- جلَّ وعلا- أنْ يجعل هذا العام عام خيرٍ وبركة، وعزٍّ للإسلام ونصر للمسلمين، وأنْ ينصر دينه ويُعلِي كلمته، فاتَّقوا الله- يا عبادَ الله.